التصنيفات » دراسات

القدس وآفاقها في ظل المعطيات الراهنة

بقلم : فؤاد زيدان

أشكر لمنتدى الثقافة العربية وللدائرة الثقافية في إمارة عجمان اهتمامهما بالقدس مدينتنا المقدسة أو بيت المقدس كما هي معروفة بالتراث العربي الإسلامي ، كما أشكر لهما تشريفي بتناول هذا العنوان ذي الأبعاد السياسية الكبيرة ، بما فيه من الهموم والمواجع والمخاطر والآلام معا ، وربما بما يحمله من الآمال أيضا .

فالقدس اسم على مسمى ، هي إحدى أقدس ثلاث مدن لدى من ارتضوا الإسلام دينا ، والقدس التي كان العرب اليبوسيون أول من بناها هي إحدى أقدم مدن الأرض العربية ظلت معمورة ومليئة بالحياة ومعشوقة لأهلها ومحيطها ، وهي مدينة تتمتع بأهمية إستراتيجية جعلتها واحدة من أبرز مراكز التقاء وصراع الحضارات ، وهي في القلب الفلسطيني اليوم مركز صراع الوجود للوطن العربي كله ، وأحد أبرز محددات مصير المنطقة كلها .

والقدس في هذا العام هي عاصمة الثقافة العربية بكل ما يجب أن يعنيه ذلك من اهتمام بها وبإرثها الحضاري القومي والإسلامي والإنساني وما تشكله في قلب أمتها وفي كوكب الأرض من تراكم الخبرة وجماليات الإبداع واختزال لصورة أمتها الثقافية التي هجرتها في صحراء الاحتلال الصهيوني الوحشية القاسية .

القدس ذلك كله ، ولذلك ليس من السهل طرق مفاتيحها واستمرار التواصل بها ومعها في هذا الظرف الذي تنزوي فيه الكثير من قدرات وإمكانيات الأمة العربية وعناصر قوتها ، وفي وقت يجتذب فيه ضعفنا ونفطنا ومواردنا كل طامع وباحث عن فراغ في منطقة مفككة ، وتتوهم فيها شظاياها الاثني والعشرين أن الخلاص الفردي يمكن أن ينقذها من الحيتان أو يتيح لها تنمية تسميها مستدامة أو بناء تظنه راسخا

القدس ذلك كله ، وفي ذلك كله..فشكرا لكل المهتمين بها لأنهم يهتمون بأنفسهم وبمصيرهم ومستقبلهم وبمستقبل أجيالهم جميعا ..وتعسا لكل الغافلين والمتغافلين عنها لأنهم إنما يخذلون أنفسهم قبل أن يخذلوها ، ويخسرون حياتهم وآخرتهم وهم يفرطون بها ويتركونها للغاصبين يستبيحون مقدساتها ..

وبعد هذه الكلمات التعريفية في أهمية العنوان والقضية لندخل إلى القدس وآفاقها في ظل المعطيات الراهنة ، وذلك عبر محطات عاجلة تبتدئ من حديث الموقع والموضع ، وصولا إلى الاحتلال وجهود التهويد المستمرة ، وامتدادا إلى السيناريوهات المضيئة لاحتمالات المستقبل . وذلك بقدر ما يتيح الوقت لنا على أمل أن نستكمل معا بالحوار صورة الراهن والآفاق في قضية ممتدة منذ الوجود العربي وما دام الوجود العربي والإنساني على سطح هذا الكوكب .

القدس : نظرة في الموقع والموضع

إذا كانت فلسطين ، وهي كذلك بحق ، تشكل عنق الوطن العربي وأخطر مفاصله المتحكمة بتواصل فرعيه الآسيوي والأفريقي ، فان القدس هي قلب فلسطين وذروة سنامها جغرافيا ، وكما توضح بيانات المركز الوطني الفلسطيني فقد تميزت مدينة القدس بموقع جغرافي هام، على هضبة القدس وفوق القمم الجبلية التي تمثل السلسلة الوسطى للأراضي الفلسطينية.

إن هذا الموقع جعل من اليسير علي القدس أنْ تتصل بجميع الجهات والبلدان حولها ، فهي ترتبط بطرق رئيسة تخترق المرتفعات الفلسطينية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، كما أنّ هناك طرقاً عرضية تقطع هذه الطرق الرئيسية لتربط وادي الأردن بالساحل الفلسطيني . وتبتعد القدس مسافة اثنين وعشرين كيلومترا فقط عن البحر الميت ، واثنين وخمسين كيلومترا عن البحر المتوسط .

وقد أتاح للمدينة كل من موقعها وأهميتها وقدسيتها أن ترتبط منذ زمن مبكر بعواصم الدول المحيطة بطرق سهلة ومتجددة . لكن موقع القدس يجمع أيضا بين الانغلاق بين الذرى وما يعطيه من حماية جبلية طبيعية للمدينة ، وبين الانفتاح وما يعطيه من إمكانية الاتصال بالمناطق والأقطار القريبة والبعيدة ،الأمر الذي كان يتيح لمن يسيطر على القدس أن يرسخ احتلاله وسيطرته على سائر فلسطين والمناطق القريبة منها من بلاد الشام ، كما يجعل عملية تحرير القدس تتويجا لتحرير كل فلسطين كلها بعد جمع شظايا أو دوليات المنطقة المحيطة بها.

وفضلا عن ذلك فقد ساعد موقع القدس في أن تصبح مدينة السلام أو ( أور سالم ) كما سماها العرب اليبوسيون والكنعانيون بحق ..وكما أراد الله سبحانه وتعالى لها قبل ذلك وبعد ذلك مركزاً إشعاعياً وروحانياً بتوالي واجتماع الديانات الثلاث فيها . وقد بلغ هذا الدور عمقه ومداه برمزية ليلة الإسراء والمعراج التي صلى فيها محمد صلى الله عليه وسلم إماما بجميع الرسل تتويجا لاكتمال رسالة الله السمحة المباركة على يديه الشريفتين ، وترسيخا لمعنى أن القدس تكون مدينة سلام وسعادة وأمن لكل البشر ما دامت عربية وإسلامية ، وأنها لا تحتمل عنصرية كهذه التي يحاول الصهاينة فرضها عليها، أو انعزالية كتلك التي ينادي بها أصحاب مسارات التسوية .. فذلك ما يؤدي لغياب السلام والأمن فيها وربما في العالم أجمع وليس في محيطها فقط .

فالقدس كل القدس ليست فقط عاصمة لفلسطين وإنما هي إحدى أهم وأقدس المدن الدينية والسياسية والاقتصادية العربية والإسلامية ، وهذا كلّه جعلها أيضا من أهم المدن العسكرية والتجارية والسياسية طوال العصور التاريخية .

ونعلم من العهدة العمرية أن أهل ( ايلياء) النصارى قبل الفتح العربي الإسلامي أصروا على تسليمها سلما وأمانة ووديعة للخليفة الفاروق عمر بن الخطاب مشترطين عليه وعلى العرب والمسلمين من خلاله ومن بعده أن لا يسكنها أحد من اليهود ، وبات ذلك عهد موثق في ذمة أجيال العرب والمسلمين .

لكن اتجاهات الريح كانت تختلف مع كل اهتزاز بوحدة وقوة العرب والمسلمين ، لتصبح المدينة المقدسة عندما يضعف محيطها المبارك المنوط به حمايتها نهبا لوحشية هجمة صليبية ما عرفت المدينة شبيها لها في بربريتها ووحشيتها ، أو مجالا لاحتلال غربي يغتال أجمل ما فيها من إنسانية وقدسية ، ثم يسلمها لهجمة صهيونية عنصرية كانت وبالا على العرب والمسلمين كما على المستعمرين أنفسهم . .وربما ستكون كارثة على الصهاينة العنصريين ومن يتبناهم ويقف معهم ويواليهم فيما يزرعونه من ظلم وفساد واستئصال وعنصرية في الأرض المباركة، وخصوصا في بيت المقدس.

الاحتلال و التهويد:

لقد ظل اليهود أقلية لا تكاد تذكر في القدس وفي فلسطين كلها طوال الحقب التالية للفتح العربي الإسلامي . لكن تغيرا كبيرا بدأ يحدث في هذا المجال في ظل الاستعمار البريطاني منذ عام 1918 ، حيث شرع المستعمرون أبواب فلسطين والقدس على مصارعيها للهجرة اليهودية انسجاما مع استراتيجيات الاستعمار الغربي التي عبر عنها نابليون بونابرت في فرنسا ومعظم القادة البريطانيين طوال القرنين الماضيين ، والتي قامت على احتلال المنطقة العربية وتجزئتها وزرع جسم غريب بين شطريها الآسيوي والإفريقي لكي يستنزف طاقتها ويحول دون استعادتها للوحدة والقوة مرة أخرى .

وللوقوف عند المفاصل الرئيسة لحركة الاستيطان والتهويد في القدس استعان الباحث بدراسات موقع مؤسسة القدس الدولية ، وخاصة الجهود المتميزة في تتبع حركة الاستيطان اليهودي للأستاذ خليل تفكجي وللدكتور وليد المدلل بالإضافة إلى بيانات مركز الإحصاء الفلسطيني .
ففي عام 1946 أضيفت كل من قرية سلوان ووادي الجوز إلى المخطط الرسمي لمدينة القدس في ظل الاحتلال البريطاني ، وبلغت مساحة مدينة القدس 20,199 دونماً، وتم توزيعها على النحو التالي:
- أملاك عربية إسلامية 40%.
- أملاك يهودية 12%26.
- أملاك مسيحية 13,86%.
- أملاك حكومية وبلدية 2,9%.
- طرق وسكك حديدية 17,12%، المجموع 100%.

وتوسعت المساحة المبنية في المدينة من 4130 دونماً عام 1918 إلى 7230 دونماً عام 1948، وبين عامي (1947، 1949) طرحت مشروعات التقسيم والتدويل ، مع أن فكرة تقسيم فلسطين وتدويل القدس لم تكنْ جديدة ، فقد طرحتها اللجنة الملكية البريطانية بخصوص فلسطين ( لجنة ببل)، حيث اقترحت اللجنة إبقاء القدس وبيت لحم إضافةً إلى اللد والرملة ويافا خارج حدود الدولتين (العربية واليهودية) مع وجود معابر حرة وآمنة، وجاء قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة ليوصي مرة أخرى بتدويل القدس. وقد نصّ القرار على أنْ تكون القدس (منطقة منفصلة) تقع بين الدولتين (العربية واليهودية) وتخضع لنظام دولي خاص، وتُدار من قِبَل الأمم المتحدة بواسطة مجلس وصاية يقام لهذا الخصوص ، وحدّد القرار حدود القدس الخاضعة للتدويل بحيث شملت (عين كارم وموتا في الغرب وشعفاط في الشمال، وأبو ديس في الشرق، وبيت لحم في الجنوب ، لكن حرب عام 1948 وتصاعد المعارك التي أعقبت قرار التقسيم أجهضت التدويل وأدّت إلى تقسيم المدينة بين أهلها العرب وقوى الاحتلال الصهيوني .

وبتاريخ 30/11/1948 وقّعت سلطات الكيان الإسرائيلي الجديد المصطنع مع السلطات الأردنية على اتفاق وقف إطلاق النار بعد أنْ تم تعيين خط تقسيم القدس بين القسمين الشرقي والغربي للمدينة في 22/7/1948. وهكذا ومع نهاية عام 1948 كانت القدس قد تقسمت إلى قسمين وتوزعت حدودها نتيجة لخط وقف إطلاق النار إلى:
- مناطق فلسطينية تحت السيطرة الأردنية,220 2 دونما أو ما يساوي 48و11 % من مساحة المدينة
- مناطق فلسطينية محتلة ( القدس الغربية) 16261 دونماً 84,13%.
- مناطق حرام ومناطق للأمم المتحدة 850 دونماً 4,40%.
المجموع : 19,331 دونماً 100%. للقسمين.

وبعد اندلاع حرب 1967 قام الكيان الصهيوني باحتلال شرقي القدس، وبتاريخ 28/6/1967 تمّ الإعلان عن توسيع حدود بلدية القدس وتوحيدها تحت الاحتلال الإسرائيلي. وطبقاً للسياسة "الإسرائيلية" الهادفة إلى السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض مع أقلّ عددٍ ممكن من السكان العرب ، فقد تمّ رسم حدود بلدية القدس لتضمّ أراضى 28 قرية ومدينة عربية، وتم إخراج جميع التجمعات السكانية العربية الكبيرة منها ، لتأخذ هذه الحدود وضعاً غريـباً، فمرّةً هي تسير مــع خطوط التسوية (الطبوغرافية) ومرة أخرى مع الشوارع ،. وهكذا بدأت حقبة أخرى من رسم حدود البلدية ، لتتسع مساحة بلدية القدس من 6,5 كيلومترا مربعا إلى 70,5 كيلومترا مربعا غالبيتها العظمى من أراضي الضفة الغربية ، ثم لتصبح مساحتها مجتمعة (الشرقية والغربية 108,5 كيلومترا مربعا )

وهكذا نلاحظ كيف تضاعفت عمليات الضم والتهويد والاستيطان في القدس ليس فقط بسبب السيطرة الكاملة عسكريا عليها ، وإنما أيضا بسبب تراجع القوة العربية ونمو المراهنة العربية والفلسطينية البائستين على الحل الأمريكي وعملية التسوية الممتدة لعقود في وقت كان فيه الكيان الإسرائيلي يمارس التحدي الفاضح لكل القرارات الدولية التي لم تعترف بضم وتوحيد القدس فضلا عن إدانتها لبناء المغتصبات وتغيير جغرافية الأرض والسكان واستمرار تهجير أهل الأرض الشرعيين من ديارهم في تناقض مع كل اتفاقيات جنيف الدولية التي تحدد ضوابط تعامل قوات الاحتلال .

وما كان لعمليات التهويد والاستئصال أن تستمر لولا الدعم الأمريكي والغربي اللامحدود تحت دخان و نفاق ما يسمى زورا بعملية السلام ومؤتمراتها وتصريحاتها وعشرات الجولات المكوكية العديدة للمسؤولين الأمريكان والغربيين إلى المنطقة . وذلك كله في لعبة مكشوفة لكل عقل استراتيجي واع ، هدفها ادارة الصراع بطريقة تمكن للوجود الصهيوني على الأرض العربية وتهدر طاقة وإمكانيات ووحدة الأمة العربية ، وتعطي للكيانات العربية الضعيفة والتابعة فرصة الادعاء بأنها تعمل من أجل القدس وفلسطين .

القدس في قلب الخطر

لذلك لم يكن غريبا أن أخطر عمليات التهويد التي تكاد تطيح بكل القدس وحوالي نصف الضفة الغربية تعاظمت بعد اتفاقيات كامب ديفيد ، وخاصة بعد اتفاقيات أوسلو السيئة الذكر وما تلاها من ارتباك وتراجع في نهج المقاومة أمام نهج المراهنة على الحل الأمريكي الموهوم . ففي عام1995 توسعت مساحة القدس مرة أخرى باتجاه الغرب لتصبح مساحتها 123كيلو مترا مربعا ، وسرعت قوات الاحتلال إجراءاتها الميدانية وممارساتها العملية لتحقيق الحلم الذي طالما راود قادة الكيان الإسرائيلي ، بإقامة القدس الكبرى، وصولاً إلى تهويدها بالكامل .

و قد ذكر الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في تقرير له نهاية عام ٢٠٠٧ أن عدد المواقع الاستيطانية في الضفة الغربية بلغ ٤٤٠ موقعاً، منها ١٤٤ مستوطنة ، و٩٦ بؤرة داخل حدود المستوطنات ، و١٠٩ بؤر خارج حدود المستوطنات ، و٤٣ موقعاً مصنفاً على أنّه مواقع أخرى و٤٨ قاعدة عسكرية. وقد أعلن رسميا أيضا ضم ست عشرة مستوطنة إلى دولة الكيان الإسرائيلي أي إلى أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 .

وأشار التقرير إلى أنّ نسبة المساحة المحظورة على الفلسطينيين بلغت ٣٨,٣% من مساحة الضفة الغربية كلها ، و أنّه في نهاية عام ٢٠٠٧ بلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية ٤٨٣,٤٥٣ مستوطناً، مقارنة مع ٤٦٦,٠٠٥ من المستوطنين حتى عام ٢٠٠٦، ومشيراً إلى أنّ عدد المستوطنين في الضفة الغربية تضاعف حوالي 39 مرة خلال السنوات 1972- 2007، في حين أنّ عدد اليهود في فلسطين التاريخية وبقية الأراضي العربية المحتلة، تضاعف مرتين فقط خلال الفترة نفسها. وذكر التقرير أنّ غالبية المستوطنين تركّزوا في القدس المحتلة، بنسبة ٥٣% من مجموع المستوطنين في الضفة، وأكثر من نصفهم في الجزء الذي ضمّته دولة الاحتلال بُعيْد احتلالها للضفة عام ١٩٦٧ .ويجري ذلك بينما تستمر حملات الاحتلال في هدم منازل المقدسيّين، وتهجيرهم أو إلغاء اقاماتهم في القدس حتى يومنا هذا ، بل لعل التهويد والتهجير يتخذ خطوات مسارعة مع كل حكومة إسرائيلية جديدة منذ ما بعد أوسلو .

وضمن مخططها لبناء ما تسميه دولة الاحتلال "القدس الكبرى " تسعى لبناء 16 تجمّعاً استيطانياً في حدود شرق القدس، بينما يبلغ عدد المستوطنات حول الـمدينة 18 مستوطنة، وعدة تجمعات استيطانية. وأبرز هذه التجمعات "معاليه أدوميم" شرقي القدس، ويضمّ ثماني مستوطنات، وتجمع "غوش عتصيون" جنوب غربي القدس، و"جفعات زئيف" شمال المدينة.

وتوقّع التقرير أنْ تؤدّي تلك الخطوات الاستيطانية الجديدة إلى قطع التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها، وعزل شرق القدس تماماً عن باقي محافظات الضفة؛ مما يؤدّي بدوره إلى تقويض فرصة إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، وعاصمتها على الأقل شرق القدس التي احتلّت عام 1967

ووفقاً للتقرير فإنّه في أعقاب مؤتمر أنابوليس للتسوية في الولايات المتحدة في نوفمبر 2007، والذي تعهّدت فيه تل أبيب بعدم توسيع البناء الاستيطاني في الضفة المحتلة، أطلقت سلطات الاحتلال العديد من مخططات البناء، وطرحت عطاءات لعشرات الآلاف من الوحدات السكنية في المستوطنات الصهيونية بالضفة معظمها في محيط ما يطلق عليه الصهاينة القدس الكبرى .

واستمراراً لسياسة التهويد وطرد السكان العرب، دأبت سلطات الاحتلال على هدم منازل الفلسطينيين في القدس المحتلة والقرى المتاخمة لها؛ بزعم عدم امتلاك تصاريح بناء؛ وذلك بغية إفراغ المدينة المقدسة وما حولها من سكانها الأصليين.

وتشير معطيات إحصائية وحقـوقية إلى أنّ عدد سكان شرقي القدس من الفلسطينيين بلغ في أواخر عام 2007 ، 256820 نسمة، ما يعادل 34% من مجمل سكان القدس، يعيش 67% منهم تحت خط الفقر. ووفقاً لأرقام جمعية حقوق المواطن، وهي منظمة مستقلة معنية بحقوق الإنسان داخل الكيان الإسرائيلي ، فقد صادر الاحتلال منذ أن قام بضمّ شرق القدس 24500 دونم من الأراضي الخاصة بالمقدسيّين العرب ، وقد بنيت عليها حتى الآن 50197 وحدة سكنية لليهود فقط . وقد فرض على شرق مدينة القدس المحتلّة عام 1967 أكثر من 29 مستوطنةً وبؤرة استيطانيّة تحتلّ مساحة 112 ألف دونم تقريباً، ويسكنها أكثر من 270 ألف مستوطن يهودي يُشكّلون أكثر من 50% من إجماليّ المستوطنين في الضفة الغربية .

كما تسبّب جدار الفصل العنصري في تقطيع أوصال القدس، فضلاً عن تعميق المشكلة الاقتصادية لسكانها من العرب ، وتتعرّض أحياء وادي الجوز والشيخ جرّاح ذات الموقع الحيوي (شمال البلدة القديمة في القدس، وعلى الطريق الواصل بين الكتل الاستيطانيّة شرقيّ المدينة والكتل الاستيطانيّة غربيّها) لهجمةٍ من الاحتلال للاستيلاء عليها، ويُعدّ الاستيلاء على هذين الحيّين في رأس سلّم أولويّات الاحتلال اليوم، لأنّه في حال تمكّنه من ذلك يكون قد أمّن تواصلاً جغرافيّاً مباشراً بين مستوطنات القدس وشمال البلدة القديمة حيث يقع الحيّ الإسلاميّ الذي لم يتمكّن الاحتلال من السيطرة عليه حتّى الآن، كما أنّه يكون قد أمّن اتصال مغتصبة معاليه أدوميم أكبر مستوطنات القدس، بالجزء الغربيّ من مدينة القدس الذي يُسيطر عليه الاحتلال منذ عام 1948.

وتسعى المؤسسات الإسرائيلية المختلفة في تسابق مع الزمن إلى استغلال الصمت الدولي والضعف والسلبية العربيين والانقسام الفلسطيني لفرض تغيير جغرافي وسكاني في المدينة، وفي الجانب الرسمي الإسرائيلي خططت المؤسسات الإسرائيلية لإتباع سياسات إسرائيلية محكمة حتى عام 2020 لتهويد الأرض في القدس وطرد أهلها العرب جميعا ؛ و تسعى حكومة الإرهابي المشهور بنيامين نتنياهو الحالية لفرض واقع إحلالي في المدينة لتصبح نسبة السكان اليهود في المدينة أكثر من (88) في المائة، فيما تكون نسبة العرب (12) في المائة، وتجري عملية سيطرة إسرائيلية منظمة على أراضي القدس والعقارات ذات الملكية العربية، وفي هذا السياق يشار إلى أن سلطات الاحتلال قد استولت على (70) بيتاً في الحي الإسلامي الذي يتجاوز عدد سكانه من العرب الفلسطينيين 24 ألفا مقابل (2800) مستوطن يهودي تم زرعهم بالإكراه داخل أسوار البلدة القديمة.

وقد أقرت لجنة التخطيط والبناء الإسرائيلية في بلدية القدس منذ 10/5/2007 مخططا استيطانيا لإقامة ثلاثة أحياء يهودية في الجزء الشرقي من المدينة، ويتضمن المخطط بناء 20 ألف وحدة سكنية لزرع عدد كبير من المستعمرين اليهود معظمهم من المتدينين المتعصبين المؤمنين بطرد العرب الفلسطينيين من ديارهم أو القضاء عليهم . إضافة إلى بناء 500 شقة في وسط الأحياء العربية بين ضاحية أبو ديس والبلدة القديمة بغرض تفتيتها. كما تتضمن الخطة إياها إقامة مدرسة خاصة لدراسات القدس، وبناء قصر فخم للمحاكم اليهودية وسط المدينة من 11 طابقا، ونقل كل المكاتب الحكومية ومؤسسات الشرطة الإسرائيلية إليها، وتاليا نقل 10 آلاف موظف وإسكانهم في مدينة القدس في عملية متدرجة تستغرق ثماني سنوات.

وشكلت منظمات صهيونية إسرائيلية وأمريكية مجموعات متطرفة خاصة ، مهمتها هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم ، وتم وضع المخططات ورصد الميزانيات بانتظار ما يرون أنه الوقت المناسب

آفاق المستقبل والسيناريوهات المحتملة

في ضوء هذا الواقع المؤلم الذي يعيشه بيت المقدس ما هي السيناريوهات المتوقعة لمستقبل مدينة القدس ومستقبل المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟

نستطيع رسم (سيناريوهات) أو لنقل مسارات متعددة للأحداث في ضوء معطيات الواقع الراهن وما تتضمنه من إمكانيات منظورة و مختزنة :

أولا: السيناريو الكابوس: ويقوم على استمرار الحالة الراهنة للعرب والمسلمين والفلسطينيين ، واستمرار عمليات التهويد ضمن المخططات التي يجري تنفيذها حاليا ، لتصل إلى هدم المسجد الأقصى وتهويد القدس كلها ومعها كل فلسطين وطرد سكانها العرب الفلسطينيين وتوطينهم في المنافي العربية والأجنبية .

ورغم بشاعة وقسوة هذا السيناريو ونتائجه المروعة فلسطينيا وعربيا ودوليا..إلا أنه احتمال مرجح ويمكن تحقيقه إذا استمرت التداعيات الراهنة من ضعف وتشرذم فلسطيني وعربي ومن دعم ومحاباة دولية للمشروع الصهيوني ..وقياسا لما حققته الحركة الصهيونية من نجاحات خلال القرن الماضي ..ثم ما شهده المشروع الصهيوني من تسارع في ظل هيمنة خيار التسوية المراهن عربيا وفلسطينيا على الغرب وطريقته وأهدافه من إدارة الصراع ..فان هذا السيناريو الكابوس يمكن تحققه نظريا خلال بضعة عقود، وربما حتى عام 2020 .

على أن الوصول إلى مثل هذا السيناريو الكابوس دونه عقبات كبرى ، منها ما أكدته خبرات التاريخ من استحالة هزيمة الأمة العربية ميدانيا هزيمة ماحقة من قبل أية غزوة خارجية مهما امتلكت من عناصر القوة والجبروت ، وهو ما يعني استحالة استمرار المعادلات العربية الراهنة . ومنها ما تؤكده خبرات العصر خاصة طوال القرن الماضي من استحالة إنهاء المقاومة العربية للمشروع الاستعماري الغربي الصهيوني تجاه المنطقة ، وخاصة المقاومة للمشروع الاستعماري الإسرائيلي العنصري الاحلالي ..ومنها أيضا حجم التغير الحضاري المتصاعد لمصلحة العرب في مواجهة الغزوة الإسرائيلية .ومنها أيضا المتغيرات الدولية التي لا تلعب على المديين المتوسط والبعيد لمصلحة المشروع الصهيوني ، حيث من المتوقع تراجع القوة الأمريكية التي تعتبر السند الرئيس للمشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين .

أما السيناريو الذي تقبله العروبة ويبشرنا به الإسلام بالمقابل فهو التحرير الكامل لكل فلسطين ..ولاتسمح هذه المحاضرة المحددة حجما وزمنا بكثير من التفصيل فيه ، خاصة وأنه يبدو بالقياس إلى معطيات الواقع وكأنه مجرد رؤية رغائبية حالمة ليس لها علميا ما يسندها . لكن المطلعين على أدبيات ومبشرات الدين الإسلامي لايساورهم شك في إمكانية تحقق مثل هذا السيناريو . كذلك فان المؤمنين بالقومية العربية ووحدة الأمة العربية لايساورهم شك أيضا بأن المشروع الصهيوني ومشروع الوحدة العربية نقيضان لا يمكن تحقق أحدهما إلا على حساب الآخر ..مع فارق أن المشروع العنصري الصهيوني عبر على لسان الكثيرين من غلاته عن أن العربي الجيد هو العربي الميت أو المستعبد عضويا أو حضاريا أو إنسانيا بينما يؤكد الفكر الإنساني العربي الإسلامي على أن تناقضه هو مع المشروع العنصري الاحلالي وليس مع اليهودية كدين ورسالة أو مع اليهود خارج كيان الاغتصاب والقهر .

وإذا كان ما جرى للقدس مما ورد في هذه المحاضرة يبرر الحديث عن السيناريو الكابوس فان قدرة المقاومة العربية على الصمود والتجدد تبقي الباب مفتوحا لسيناريو التحرير الكامل ، خاصة مع إدراك أن جذور الفكر العربي الإسلامي عميقة وراسخة في جسد الأمة ، ويزكي هذا الاحتمال ما حذر منه نابليون بونابرت قوى الاستعمار من أن كل شيء يمكن أن يتغير فجأة في هذا الشرق .

على أن في المشهد العربي والعالمي معطيات يمكن أن تدفع على المدى المنظور باتجاه سيناريوهات أخرى بين المشهدين السابقين.. فالملاحظ أن الرأي العام الغربي بدأ يسأم السلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين والعرب لما بات يسببه من خسائر على الصعد الاقتصادية والإستراتيجية والأخلاقية ، خاصة وأن هذا الغرب كان يعتبر - وربما لازالت قطاعات عريضة منه حتى الآن - تعتبر أن المشروع الصهيوني يشكل ربحا استعماريا صافيا .. ودلائل هذا السأم ما لاحظناه مؤخرا من انقسام غربي على الصعيدين الشعبي والرسمي تجاه تقرير "جولدستون " ، ومن انكسار لمشروعي " الشرق الأوسط الكبير " الأمريكي و" البحر المتوسط " الأوروبي بسبب السلوك الإسرائيلي المتطرف والوحشي والمواجهة التي لفيها في لبنان وغزة وعلى الصعيد الإنساني الشعبي العالمي ..والحجم المرعب من الجرائم ضد الإنسانية في اعتداءاته على المحيط العربي ، خاصة مع تزايد إدراك حقيقة أن القدس خط أحمر عربيا وإسلاميا ، وأن تقسيم أو تدمير المسجد الأقصى لا يمكن أن يمر كما مر تقسيم الحرم الإبراهيمي في الخليل وإنما سيستثير غضبا عربيا وإسلاميا لا يمكن التنبؤ بأبعاده على المدى الممتد من أقصى شرقي آسيا إلى أقصى غربي أفريقيا وربما على مدى أوسع من ذلك .

إن هذه الحقائق قد تحفز القوى الدولية المتصارعة على موقع وثروات المنطقة على الوصول إلى حلول وسط قابلة للحياة ولو لمدة زمنية محدودة ما دامت المنطقة العربية غنية بالطاقة وما دام ضبط الصراع مربحا لهذه القوى...لكن هذه الحلول الوسط المؤقتة لن تكون ممكنة إلا بتعديل موازين القوى على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي ، بالمقاومة أساسا ، و بفعل إقليمي أو دولي ربما يؤدي إلى حل سياسي يحترم عروبة فلسطين على الأقل في حدود 1967 مع استعادة بقية الأرض العربية المحتلة في يونيو 1967 واحترام حقوق اللاجئين الفلسطينيين السياسية والإنسانية بما في ذلك حق العودة .

وهذا السيناريو الوسطي الثالث صعب التحقق دون عودة فاعلية التضامن العربي وحيوية الدبلوماسية العربية التي تتفهم الواقع وتسعى لتعديل شروطه بدل الاستقالة من الفعل والسعي لإرضاء القوى المسيطرة أو الباغية بأي ثمن. وهو مستحيل التحقق أيضا دون ربط ايجابي للدائرتين العربية والإسلامية حول فلسطين إلى المدى الذي يشعر فيه الكيان الصهيوني والقوى الداعمة له أن هذا البديل هو الممكن الوحيد لتصفية المشروع الصهيوني كله في المنطقة .

وعلى كل حال فان نتائج هذا السيناريو الثالث تتراوح بين إمكانية تحقيق الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود عام 1967 كما يتمنى المتفائلون العرب من تيار التسوية والمساومة الذي يراهن على الحلول الدولية وبين ماطرحه ليبرمان وزير خارجية الكيان الأكثر تطرفا ووحشية في عدائه للعرب من إقامة دولة فلسطينية مؤقتة على حوالي ستين بالمائة من الضفة الغربية ، وهو ما يستثني القدس كلها مع كل محيطها باعتبارها جزءا من كيان الاغتصاب على أساس هذا الحل المؤقت ..لكني أعتقد أن أيا من الحلول التي يمكن إدراجها ضمن هذا السيناريو الوسطي سيصعب ضمان استمرارها لأنها مرتبطة بموازين القوى المتغيرة .

وعلى كل حال فان ما يجب التأكيد عليه في الذاكرة العربية في كل الأوقات أن الصراع مع المشروع الصهيوني على الأرض العربية هو صراع صفري يصعب الوصول فيه إلى حل تصالحي حقيقي كما أكدت وتؤكد كل الجهود الفاشلة لعملية التسوية ، وآخرها ما أعلنه صائب عريقات مسؤول ملف المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية من فشل عملية التسوية المرتبطة باتفاقات أوسلو وما تلاها والتي استمرت كما قال عريقات ثمانية عشر عاما .

وهذه الحقيقة تؤكد ما يذهب إليه أصحاب النظرة إلى الصراع باعتباره صراع وجود لا صراع حدود ، ولا حل له إلا بسيطرة أحد المشروعين : الاستعماري الصهيوني، أو العربي الإسلامي على كل الوطن العربي ..وكل تغافل عن حقائق الصراع لن يؤدي إلا للمزيد من الخسائر العربية بشريا وماديا واقتصاديا ، والى المزيد من هدر الزمن والطاقة والدم العربي ..فضلا عن الإجهاض المتكرر لكل محاولة جادة للتنمية في أي من أقطار الوطن العربي كلها.

ولن تجدي أي محاولة من أي دولة عربية للهروب من الصراع، ففلسطين في قلب الأمة، والاحتلال فيها يستطيع أن يصل إلى كل المواقع، وقد ضرب بالفعل بين أقصى المغرب وأقصى المشرق. والاحتلال يعلم أن وجوده نقيض للوجود العربي ولكل محاولة جادة لبناء القوة الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية أو العسكرية.

* ألقيت هذه المحاضرة في مدينة عجمان بدولة الامارات العربية المتحدة ضمن منتدى الثقافة العربية لدائرة الثقافة والاعلام في عجمان ، وذلك


 

2009-11-19 12:50:33 | 1646 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية