التصنيفات » دراسات

المزاعم والادّعاءات الصهيونية ومخاطر تهويد القدس



 

بقلم:ميشال اده  *
  

تهويد القدس، أي الاستئثار اليهودي بهذه المدينة إنّـما يعني، في النظرة الصهيونية العنصرية التقليدية، إلغاء القدس بوصفها أرضاً مقدّسة ورمزاً دنيوياً وسماوياً مشتركاً بالنسبة للأديان السماوية. والتطرّف الصهيوني لا يعتبر التهويد مكتملاً إلاّ عندما ينجز إلغاء الطابع الكوني لبيت المقدس، بشراً ومعالم وتاريخاً، وذاكرةً للإنسانية جمعاء. فالتصدّي لهذا المشروع الكارثي ليس مسؤولية الشعب الفلسطيني الشهيد فقط وحصراً. بل هي مسؤولية عربية وإسلامية. مثلما هي أيضاً مسؤولية مسيحية كاثوليكية وأرثوذكسية، ومسؤولية الڤاتيكان بالتحديد، كما أنّها مسؤولية البشرية جمعاء.

غلاة الصهاينة الأكثر تشدّداً وتزمّتاً بالمعنيين السياسي والتلمودي، لا يعتبرون التهويد مكتملاً متحقّقاً إلاّ باقتلاع المسجد الأقصى لإعادة بناء «الهيكل» مكانه بالضبط.
فسياستهم مبنية على إعادة بناء هذا الهيكل المزعوم. ولها على الدوام وجهان أساسيان :
الأول، هو التطهير العرقي باقتلاع المقدسيين وتهجيرهم، مسيحيين ومسلمين. والذين يزداد عددهم، رغم ذلك، نظراً للنمو الديموغرافي الاستثنائي للمقدسيين المسلمين بخاصة.

أمّا الوجه الثاني للتهويد فيتمثل باعتماد أشكال متنوّعة من الإغراءات والتسهيلات ومن مظاهر الترغيب لاستقدام المزيد فالمزيد من اليهود للإقامة في القدس، بهدف مواجهة ذلك النمو السكاني العربي المقدسي من جهة. ومن جهة أخرى، لمواجهة هجرة اليهود المعتدلين والعلمانيين من القدس، بعدما بات تعايشهم مع المتطرّفين المتزمّتين أمراً مستحيلاً عليهم.
مشروع التهويد هذا يتّضح اليوم أكثر فأكثر بكونه تهويداً عملياً صريحاً نهائياً كاملاً لكل الضفة الغربية، وللقدس تحديداً. أمّا التداعيات المقابلة لهذا المشروع في الجانب الإسرائيلي فتتمثّل أساساً بالمتغيّرات النوعية التي بات المجتمع الإسرائيلي يشهدها. وجوهر هذه المتغيّرات هو التراجع الكبير لليسار وللمعتدلين اليهود، لا سيما التيار المعروف «بحركة السلام الآن».
هذا التراجع قابله صعود، بل طغيان، قوى وتجمّعات التطرّف والتزمّت والتشدّد. الكتلة الأساسية الأشرس لهذا التطرّف تتمثّل بحركة ما يسمى «يشع»، أي «مجلس المستوطنات في الضفة الغربية». فهذا المجلس الذي كان ينمو تدريجاً، أصبح اليوم العنصر الطاغي بلا منازع على سياسة الحكومات الإسرائيلية، اليمينية والمعتدلة على السواء. غير أنّ هذا العنصر الجديد ليس طاغياً فقط على الحكومات الإسرائيلية، بل هو مؤثّر بشكل خطير جداً على كلّ ما يُطرَح من حلول سلمية الطابع، وعلى أوضاع المنطقة برمّتها، بل أوضاع العالم بأسره.
لماذا ؟
لأنّ الحكومة الإسرائيلية التي يتحكّم بخياراتها وقراراتها مجلس «يشع»، أي المستوطنون بالذات، تملي إرادتها وقراراتها بشكل طاغ على اللوبي الصهيوني (الإيباك) في الولايات المتحدة وتحدّد له الخيارات والمواقف. وهذا اللوبي يمارس بدوره تأثيراً حاسماً على الحكومة الاميركية التي ترخي بثقلها الحاسم على مواقف وقرارات الامم المتحدة. وهكذا، أصبح مجلس «يشع» أي المستوطنون، هو الفاعل الأساسي في توجيه سياسة إسرائيل والتأثير الفعلي بالتالي على مجرى السياسة العالمية. وعلى هذا، فإنّه لمن السذاجة بمكان ومن قبيل التبسيط المأساويّ النتائج ليس إلاّ، أن يُسْتَسْهل أمر إزالة المستوطنات أو تجميد ما يعتبره الصهاينة حق نمّوها الطبيعي المزعوم بمجرّد مطالبة إسرائيل بذلك لفظياً، وبالاكتفاء بالإصرار على هذه المطالبة وحسب.

العملية السلمية التي بدأت في مؤتمر مدريد عام 1991 كانت مبنية على مبدأ الأرض مقابل السلام. لكنّها أصبحت مع حكومات شارون ونتنياهو المتزمّتة مرفوضة تماماً، ليحلّ محلّها فرض الاستسلام تحت عنوان السلام مقابل السلام فقط. وهذا من دون أي ذكر أو أي تعهّد بالتخلّي عن أي شبر من الأراضي المحتلّة في كل أرض فلسطين، والتي يُعمل على ضمّها الى إسرائيل.

مشروع التهويد هذا لا يحيا إلاّ على فرض الاستسلام. لا سيما أنّ عمليّة السلام تطالب إسرائيل : أولاً: بإزالة المستوطنات من الضفة الغربية. وهذه مسألة ترفضها إسرائيل بشكل قاطع، وعلى لسان نتنياهو بالذات وسائر القيادات الإسرائيلية. بل يجسّد نتنياهو هذا الرفض القاطع بتوسيع المستوطنات القائمة وبناء المزيد والمزيد منها، وفي القدس بخاصة. فالضفة الغربية إنما هي، بحسب عقيدة هذا التطرّف، «يهودا والسامرة» بالذات. أي أرض إسرائيل الحقيقية الأصلية بزعمهم. فكيف يجوز لإسرائيل أن تنسحب من أرضها «Eretz Israel» وفق عقيدتهم؟

ثانياً : العملية السلمية تطالب إسرائيل كذلك بالتخلي عن القدس، أي القدس العربية. لكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ما تزال تصّر على اعتبار القدس العربية هي أورشليم ذاتها القديمة الأصلية، وتعلنها عاصمة إسرائيل الأبدية. ولذا فهي تتابع قضمها وتهويدها حيّاً حيّاً وبيتاً بيتاً . ذلك أنّ الأحياء الغربية في القدس لم يبنها اليهود إلاّ في بدايات القرن العشرين المنصرم.
ثالثاً : العملية السلمية تطالب إسرائيل أيضاً بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين الذين طردتهم عام 1948. وهذه مسألة تعتبرها حكومات إسرائيل جميعها من رابع المستحيلات. سياستها في هذا الخصوص هي توطين الفلسطينيين أينما يوجدون وليس عودة أيّ منهم على الإطلاق.

رابعاً : وأخيراً العملية السلمية تقول بالحلّ على أساس دولتين : قيام دولة فلسطينية مقابل دولة إسرائيل القائمة. وهو ما يعتبره التطرّف الصهيوني من رابع المستحيلات كذلك. وعندما برز الى العلن الضغط الاميركي على نتنياهو مؤخّراً في هذا الصدد، اضْطُرَّ الى القول لفظاًً ليس إلاّ، بدولتين، لكنّه ربط ذلك بالشروط التعجيزية المذكورة أعلاه، مضيفاً إليها شرط القبول والاعتراف الفلسطيني والعربي والدولي بيهودية دولة إسرائيل. وهذا ما يؤدّي حكماً الى اقتلاع وطرد فلسطينيي 1948 من دولة إسرائيل بكونهم غير يهود، إذْ أن وجودهم داخل إسرائيل يناقض يهوديتها المزعومة.
[[[
ماذا يعني فعلاً قيام دولتين إسرائيلية وفلسطينية، بمنظار الصهاينة المتطرّفين المتزمّتين؟
الدولتان إنّما تعنيان دولة عربية في الضفة والقطاع، وهي الدولة الفلسطينية المزمع إقامتها، وسكانها جميعهم من الفلسطينيين. ودولة مختلطة هي إسرائيل الحالية، وسكانها من اليهود ومن عرب 1948. وهي الدولة التي يتوقّع الإسرائيليون اليهود أن تتحوّل حكماً وتدريجاً الى دولة يغلب عليها الطابع العربي، وهو الذي يشكّل اليوم أكثر من 20 % من عدد السكان. وَلَسوف يصبح بعد حوالى 25 سنة الطابع الغالب قطعاً بفعل ارتفاع معدّل النمو السكاني العربي، وتراجع هذا المعدّل لدى اليهود عموماً. وهذا ما يسمّيه التطرّف الصهيوني «القنبلة الديموغرافية»، والذي حملهم منذ عقود على السعي الى تنفيذ ما أسموه «الترانسفير» لعرب 1948، أي اقتلاعهم من داخل إسرائيل.

الإسرائيليون بغالبيتهم باتوا يتملّكهم الخوف من حتمية الغرق في هذا الطوفان الديموغرافي الفلسطيني. وبالتالي، فلسوف تظلّ إسرائيل متمسّكة برفضها حل الدولتين، وبالسعي دائماً وأبداً الى ضمّ الضفة الغربية لدولة إسرائيل الحالية. ففي أي مكان، إذن، سوف تقوم الدولة الفلسطينية المفترضة؟ هل يعقل أن تقوم، في نظر الصهاينة، على أرض إسرائيل ذاتها؟
هذا ما يلقي ضوءاً إضافياً على حقيقة التشبّث الإسرائيلي بالمستوطنات وتوسيعها وبناء المزيد منها على أراضي الضفة الغربية كافةً. وهو ما ينفّذه نتنياهو حرفياً بمواقفه وسياسته، وبصراحة تعبيره عنها عملاً وقولاً.
بعد هذا كلّه، إذا به، نتنياهو، يتكرّم بدعوة الفلسطينيين الى المباشرة بالمفاوضات ولكن من «دون شروط مسبقة»، على حدّ قوله. فعلامَ ستدور إذن هذه المفاوضات ما دام قد حدّد لها نتائجها وخواتيمها قبل أن تبدأ ؟ نتنياهو ـ وليس الفلسطينيون ـ هو من يضع الشروط، بل يتابع تنفيذ جوهرها وتفاصيلها على الأرض، ثمّ يدعو الفلسطينيين للمصادقة عليها. أي على سياسة قتل أنفسهم وقضيتهم بأنفسهم.
إنّها ليست دعوة للفلسطينيين الى المشاركة في مفاوضات. بل هي ورقة جلب لهم لإعلان موافقتهم الصريحة على التخلّي التام عن أبسط عناوين قضيتهم العادلة وحقوقهم المشروعة. إنّها دعوة للفلسطينيين الى الاستسلام الكامل الناجز، وقبولهم بالفتات الذي يعرضه عليهم نتنياهو، ألا وهو «السلام الاقتصادي»، أي مجرّد كسرة خبز تجعلهم على قيد الحياة ولو الى حين.

عَلامَ يقوم حقاً وصراحة هذا الجبروت الذي يطبع سياسة نتنياهو؟ لنكن صريحين هنا. ولنكفّ عن خداع أنفسنا المستمرّ عقوداً وعقوداً.
إنّه يستند بخاصة الى سلاح بالغ الفعالية ألا وهو انعدام مواجهة حقيقية تعترض سبيله. وهي المواجهة التي لا يمكنها إلاّ أن تكون عربيةً، بَدْءاً ومنْ حيثُ الأساس. فما دمنا مكتوفي الأيدي ننشد الغيث من صلاة استسقاء الآخرين فعبثاً نرتجي نزوله. لن تقوم قائمة حقيقية لأي دور، ولا لأي سعي آخر، إذا لم يستند الى حضور الدور العربي المفقود.
التهويد يتغذى ويستقوي بغياب هذا الدور. بل أكاد أن أقول بالتخلّي العربي الرسمي حتى عما يمليه أضعف الإيمان.
إذْ ما الذي فعله العرب والفلسطينيون في مواجهة جموح التطرّف الصهيوني منذ اتفاق أوسلو عام 1993 وحتى اليوم؟

لقد اندفعوا في سلسلة من المفاوضات التي بدأت مع حكومة يتسحاق رابين آنذاك.
إثر ذلك، تمّ انسحاب إسرائيلي تدريجي من بعض المناطق في أريحا وغزّة ورام الله وبيت لحم. وبعدما اغتيل رابين على يد متطرّف صهيوني عام 1995، استمرّت المفاوضات مع حكومة شيمون بيريس. وبعد سقوطه في انتخابات 1996، استؤنفت لفترة قصيرة مع حكومة بنيامين نتنياهو الذي لم يكتف بوقف الانسحابات، لا بل أطلق عملية بناء المستوطنات وتوسيع المستوطنات القائمة في الضفة الغربية. وانتهى الى تعطيل المفاوضات. وهو الأمر الذي أدّى الى اندلاع عمليات مقاومة فلسطينية جديدة أخذت بالتصاعد. وهذا ما عجّل بسقوط حكومة نتنياهو عام 1999 ومجيء حكومة إيهود باراك، الذي استأنف المفاوضات، متابعاً في الوقت ذاته حركة الاستيطان وتوسيعها. غير أنّ هذه المفاوضات التي جرت مع الرئيس الراحل ياسر عرفات بمشاركة الولايات المتحدة انتهت الى الفشل المدوّي الذي تَوَّجَهُ شارون باقتحامه الاستفزازي للمسجد الأقصى.
الأمر الذي أدّى الى اندلاع انتفاضة الأقصى الكبرى. وإثر سقوط باراك في انتخابات 2001، تسلّم الحكم أرييل شارون الذي أفشل وأجهض كل المحاولات التي سعى إليها تباعاً الرئيس جورج بوش الإبن من أجل استئناف المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتوصّل الى حل سلمي، وذلك من خلال إيفاده ممثلين له في هذه المساعي، وكانوا على التوالي جورج ميتشيل وجورج تينيت وأنطوني زينّي ووليم بيرنز. لكنّ شارون لم يكتف بإجهاض كل هذه المحاولات، بل أعاد احتلال كل المناطق التي كان انسحب منها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. وارتكب هذا الجيش في هذه العمليات عدة مجازر ولا سيما في جنين وبيت لحم ورام الله وغيرها.

أمّا في عهد حكومة أولمرت الذي خلف شارون بعد إصابته بعارض صحي خطير، فتمّت العودة الى نغمة المفاوضات، فيما تابع أولمرت هو أيضاً وفي الوقت نفسه، كسائر أسلافه، وبصورة متزايدة تنشيط حركة الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس. الى أن سقط وحلّ محلّه نتنياهو في الحكومة الحالية، معلناً بادئ ذي بدء رفض إزالة المستوطنات أو حتى تجميد الاستيطان بل المضي في بناء المزيد منها وتوسيعها، بما في ذلك استكمال تهويد القدس بكلّ أشكال العنف والتنكيل والطرد واحتلال البيوت، والإصرار على الطابع اليهودي لدولة إسرائيل بما يعنيه ذلك من اقتلاع لفلسطينيي الـ1948 من داخل إسرائيل، ناهيك عن إعلان رفضه لحقّ العودة بصورة مطلقة.
إذن، ست عشرة سنة من المفاوضات العقيمة لم تقدم شيئاً على الإطلاق للفلسطينيين. لا بل أسقطت حتى اتفاق أوسلو. وكانت هذه المفاوضات مجرّد أداة بيد إسرائيل انتهزتها لتزرع أرجاء الضفة الغربية والقدس بالمئات والمئات من المستوطنات، بحيث يغدو من المستحيل على أي مفاوضات لاحقة، حتى لو كانت جدية، أن تصل الى أيّ نتيجة. وهذا ما يكرّسه نتنياهو اليوم بفرض شروطه التي تحرم الفلسطينيين من أي حق من حقوقهم.

أمّا العرب، وعلى المستوى الرسمي بخاصة، فاقتصرت جهودهم، في تلك الأثناء، على انتظار النتائج من مفاوضات شاءتها إسرائيل أن تستمرّ صوريّة وحسب من دون أي نتائج. ولقد انتهى الأمر بالدول العربية الى حدّ التخلّي حتى عن أبسط مظاهر الاهتمام التي كانوا يبدونها سابقاً.
[[[
عندما كانت القمم العربية تلتئم على مستوى الملوك والرؤساء على سبيل المثال، ومن ثمّ على مستوى وزراء الخارجية، لم تعد تعقد حتى على مستوى السفراء للتباحث في مجريات القضية الفلسطينية.

كما أنّ الدول العربية التي وقّعت اتفاقات سلام منفرد مع إسرائيل أو بعض التي لم توقّع، تستمرّ في علاقات التطبيع بأشكال مختلفة، بدل أن تقطعها أو تجمّدها على الأقلّ لتضغط بذلك على إسرائيل، أقلّه من أجل تجميد المستوطنات.
ولكم يحزّ في النفس أن ينزلق الفلسطينيون بدورهم أو أن يُستدرجوا للوقوع في أحابيل إسرائيل.
لقد حرصت شخصياً على الدوام، على تجنّب توجيه النقد الى المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير. فالشعب الفلسطيني هو دائماً الضحية، وهو المستشهد يومياً، وهو المدافع بلحمه الحيّ عن مجرّد الحقّ في الحياة.

لكنّ التشرذم الفلسطيني الحالي كارثة حقيقية. الصراع الحادّ المدمّر بين الفلسطينيين أنفسهم، بين السلطة وفتح وحماس تحديداً، ليس سوى خدمة مجانية يسديها، بكامل الوعي لمفاعيلها المدمّرة، أبناء القضية أنفسهم الى جلاّدي شعبهم. أرجو أن تصغوا الى ما يقوله حرفياً في هذا الخصوص رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية في تقريره المقدّم أمام لجنة الخارجية والأمن في الكنيست منذ حوالى الشهر :
«إنّ الوضع الفلسطيني الداخلي حيث العداء بين الفصائل يزيد حدّة وشدّة على العداء لإسرائيل، هو عامل أساسي جعل إسرائيل تعيش هدوءاً أمنياً لم تشهده من عشرات السنين» (جريدة «الشرق الأوسط»4/10/2009).
هذا أمر غير مفهوم، وغير مبرّر فلسطينياً على الإطلاق. مثلما يصعب أن يُفهم فعلاً بعض من مواقف السلطة الفلسطينية حيال مسائل جليلة الشأن والتداعيات على مصير القضية الفلسطينية ذاتها.

وإذا كان وزير المعارف الإسرائيلي الأسبق، زعيم حركة ميريتس يوسي ساريد، قد لاحظ محتجاً على حكام إسرائيل الحاليين، في مقال له في «هآرتس» (19/10/2009) «أنّ نتنياهو وباراك يريدان تحويل الشريك (والمقصود الرئيس محمود عباس) الى عميل بهدف قتله»، فهل يكون لزاماً على قادة فلسطينيين أن يتّخذوا مواقف ملتبسة مثيرة للتساؤل، ممّا يشكّل بذاته سلاحاً ماضياً بيد نتنياهو يواجه به كل من يعلن إدانة إسرائيل، ويطالب بإحالتها الى المحاكمة؟

أمّا رئيس حكومة السلطة الفلسطينية السيد سلام فياض فقد أعلن أنّ الأولوية عنده هي بناء الاقتصاد الفلسطيني. وعليه، فهو لا يعوّل على مفاوضات والمزيد منها من أجل إزالة المستوطنات وتثبيت حقّ العودة والخوض في موضوع يهودية الدولة الإسرائيلية، وتهويد القدس. وهو يعتبر أنّه إذا تمكّن من بناء اقتصاد فلسطيني متين يسهل عليه أن يحصل على موافقة إسرائيل على الدولة الفلسطينية العتيدة بعد سنتين.
على هذا الأساس أعلن أنّه يوافق على اقتراح نتنياهو المتعلّق «بالسلام الاقتصادي» تسهيلاً للوصول الى الهدف أعلاه.

لكنّ هذا الموقف، لا يخدم بكل أسف إلاّ مصلحة إسرائيل، ويشكّل بحدّ ذاته سلاحاً إضافياً بيد نتنياهو في استمراره بسياسة الاستيطان والتهويد والقضاء على حقّ العودة. فيما العرب لا يعيرون اهتماماً جدياً للأوضاع الجارية، يشهد العالم هبّة حقيقية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني الشهيد. فعلى أثر المجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، شكّلت الأمم المتحدة لجنة لتقصّي الحقائق في الجرائم بشأن الحرب الإسرائيلية على غزّة. وأوكلت رئاستها الى القاضي الجنوب أفريقي ريتشارد غولدستون ـ وهو اليهودي «الصهيوني الأصيل» كما يعرّف عن نفسه. وبعد إجراء التحقيق طيلة بضعة أشهر، أصدر تقريره الذي يعلن فيه إدانة دولة إسرائيل لارتكابها جرائم حرب وجرائم ترتقي الى مستوى جرائم ضد الإنسانية.

فتسبّب تقريره بإشاعة الذعر في صفوف قادة إسرائيل الحاليين ومنهم إيهود باراك وقادة الجيش. فاضطرّوا الى تجنّب السفر الى بلدان عديدة كانت قد أعلنت، بعد صدور التقرير، عن اتخاذها التدابير اللازمة لإلقاء القبض عليهم وتحويلهم الى المحكمة الدولية. هذا ما جرى في انكلترا، وفي الدانمارك، ودول اسكندينافية وأوروبية أخرى.
وبإزاء الحملة الشرسة التي شنّتها إسرائيل على هذا القاضي واتهامه بخيانة اليهود، أصرّ هو في حينه على التمسّك بإدانته «ممارسات قادة إسرائيل وليس شعبها»، على حدّ قوله، مضيفاً أنّ ضميره لا يتحمّل السكوت عن مثل تلك الممارسات.

ففيما هذا القاضي اليهودي ودول عديدة في العالم يدينون إسرائيل، إذ بنا نجد بعض الدول العربية والرئيس محمود عباس يتبادلان الاتهامات بالعمل على عدم تحويل تقرير غولدستون الى المحكمة الدولية مراعاةًَ منهم لنتنياهو من أجل موافقته على استئناف المفاوضات.
أمّا إسرائيل فتركّز حالياً على مطالبة الفلسطينيين بخاصة، والدول العربية الأخرى بعدم التمسّك بهذا التقرير، بل تجاهله تماماً.
[[[
إنّ الولايات المتحدة الأميركية ذاتها بدأت تشهد في داخلها تحوّلات نوعية ملموسة تختلف بوضوح عن سياسة التأييد والدعم الدائمين لإسرائيل كما كان الأمر من قبل. فاللوبي اليهودي الجديد «جي ستريت» الذي أنشأته مؤخراً مجموعة من اليهود الأميركان، في مواجهة «الإيباك» اللوبي الصهيوني العريق المنحاز دائماً لسياسة إسرائيل والتطرّف الصهيوني، والواسع النفوذ والتأثير في الولايات المتحدة، هذا اللوبي الجديد بدأ يتحرّك وينشط معرّفاً عن برنامجه وأهدافه بشعار : «تأييد إسرائيل وتأييد السلام».
وبدأ يدعم مواقف الرئيس أوباما التي سبق وأعلنها منذ انتخابه، بضرورة إزالة المستوطنات من أجل الدخول بمفاوضات جدية. وقد تسبّب هذا الأمر في استنفار إسرائيل والتطرّف الصهيوني ضدّه، وبدأت إسرائيل تشنّ حرباً ضروساً عليه داخل الولايات المتحدة نفسها، ونجحت منذ يومين تحديداً في إلحاق خسارة انتخابية بالرئيس أوباما في ولايتي فرجينيا ونيو جرسي اللتين انتخبتا حاكمين من الحزب الجمهوري. وهذا في الوقت الذي كان أوباما قد أحرز فيهما تفوّقاً كبيراً في معركة الرئاسة.

إنّ مناهضة «الإيباك» بصورة علنية، ومن قبل يهود أميركان، إنّما تعني بداية اعتراض علني داخل الولايات المتحدة ذاتها على سياسة قادة إسرائيل المتطرّفة والمعطّلة للسلام.
الحملة الشرسة التي تشنّها اليوم إسرائيل وغلاة التطرّف الصهيوني على الرئيس أوباما ومجموعة «جي ستريت» وصولاً الى اتهام أعضائها اليهود بمعاداة إسرائيل، بل وصمهم بنزعة معاداة السامية، أفلا تكفي العرب الساكتين المطبّعين دليلاً، ليدركوا أنّ اعتصامهم بالصمت عن قادة إسرائيل، وتمسّكهم بالتطبيع معها، قد أصبح سلاحاً مسنوناً في يد نتنياهو لتسديد الضربة القاضية للشعب الفلسطيني وقضيته، وللقدس والمسجد الأقصى، وللسلام في المنطقة؟؟

ثمّة في العالم وقفة واضحة المعالم، مقدامة، ضدّ سياسة قادة إسرائيل المتزمّتة والتطرّف الصهيوني. في حين أنّ السياق العربي ليس غير التخلّي.
أمّا وأنّ الساحة تُخلى عملياً أمام جموح التطرّف الصهيوني المتشدّد، فإنّه يُخشى حقيقة أن تقدم حكومة إسرائيل الحالية على افتعال ظروف وأجواء تسرّع شنّ الاعتداء المعدّ سلفاً على الحرم الشريف والمسجد الأقصى، في غمرة حملتها العسكرية التنكيلية المستمرّة التي ما انفكّت تتابعها أصلاً داخل المسجد الأقصى ذاته وفي ما حوله.

ليس مستغرباً أبداً أن يتمّ انتهاز الاستمرار في أجواء التشنّج والتوتّر الهستيري، للإقدام على إحراق المسجد الأقصى وتدميره لا سمح الله. وهذا، من قبل متطرّفين مدسوسين أو مستغلّين للأحداث الدموية الجارية. عندها سوف تقع الكارثة. فتسارع إسرائيل والصهاينة الى مخاطبة العالم لامتصاص ردود الفعل بالإعلان عن استنكارها وعن تشكيل لجان تحقيق وتعقّب المجرمين، والقول للجميع في العالم : ماذا تريدون منّا أكثر من ذلك؟ هل تريدون تدمير الدنيا بأسرها رداً على جريمة ارتكبها فرد أو مجموعة من المتطرّفين المهووسين؟
على العرب جميعاً، وعلى المسلمين في سائر بلدانهم، وعلى المسيحيين قاطبة، أن يدركوا أنّ إنقاذ المسجد الأقصى من المخطّط الجهنّمي إنّما الآن وقته، وليس في ما بعد. على الجميع أن يدركوا بأنّه كلّما أحرز التطرّف الصهيوني وإسرائيل المزيد من النجاح والتقدّم في سياسة الإجهاز الكامل على الشعب الفلسطيني وعلى الضفة الغربية، كلّما ازداد الخطر الفعلي على المسجد الأقصى.

الوقفة أوانها الآن وليس غداً. ليس أبداً عندما تضع إسرائيل العالم أمام الأمر الواقع.
الوضع أشدّ قتامة بل أخطر من أي وقت مضى، منذ إعلان الكيان الصهيوني في فلسطين. ولكن ليس من حلّ حقيقي إلاّ باعتماد حلّ الدولتين على أساس مبادرة قمّة بيروت العربية التي أطلقها العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز. إلاّ أنّ ذلك يستدعي من الجميع العمل الملموس والتعبئة الحقيقية وليس التأييد اللفظي، من أجل تحقيق هذا الهدف الذي يؤكّد رغبة العرب في السلام لجميع دول المنطقة بما فيهم إسرائيل.
• وزير ثقافة لبناني سابق 
•  نص محاضرة القيت في قصر الاونيسكو في بيروت بمناسبة الاحتفال بالقدس عاصمة ثقافية عربية (2009)



 

2009-12-21 12:09:19 | 1732 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية