التصنيفات » دراسات

صــهـر الــوعـي أو في إعادة تعريف التعذيب...




 

بقلم الاسير وليد دقه – اسير منذ 23 عاما  من فلسطيني 48
عنوانه في السجن : سجن جلبوع قسم 1- بريد متنقل 10900- الجلبوع




مقدمة...
ليس هناك أشدّ وأقسى من أن يعيش الإنسان إحساسًا بالقهر والعذاب دون أن يكون قادرًا على وصفه وتحديد سببه ومصدره. إنه الشعور بالعجز وفقدان الكرامة الإنسانية عندما يجتمع اللايقين بالقهر، فيبدو لك بأنه ليس العالم وحده قد تخلى عنك، وإنما لغتك قد خانتك من أن تصف عذابك وأن تعرّفه، أو حتى أن تقول آخ.. آخ مفهومة ومدركة من قبل الآخر الحرّ. أو أن تكون قادرة على اختراق الضباب الإعلامي والسياسي لتحتل قضيتك كأسير مكانة معقولة على أجندات السياسيين والإعلاميين، وأن تحظى باهتمام لجان حقوق الإنسان. فتلجأ حينًا لهذا الغرض، وللضرورات الإعلامية إلى تبسيط المركب في عذابك، فيبدو عذابًا بسيطًا لا يستحق الإهتمام. أو تضطر حينًا آخر للتهويل والتضخيم، فيكون من اسّهل على سجانك أن يفند ادعاءاتك الكاذبة. ليكرس عزلك عن العالم مجددًا لتواصل عذابك وحيدًا فتقف أمام خيارين؛ إما أن تكف عن كونك ذاتا وتتحول كليًا إلى موضوع لسجانك، وإما أن تحوّل ذاتك لموضوع بحث لإعادة تعريف التعذيب وأسبابه. الأمر الذي لن يكون بالمهمة السهلة على الإطلاق. فأن تكون الذات الباحثة وموضوع البحث في نفس الآن يعني أن تكون المُعذَّب والذي يُبلغ عن التعذيب.. أن تكون المشهد والمشاهد، أن تكون التفاصيل والتجريد معًا.
يشعر الأسير الفلسطيني في سجون الإحتلال الإسرائيلي بحالة من العجز النابعة من صعوبة توصيف حالة القمع التي يعيشها منذ بداية الإنتفاضة الحالية. فقد أصبح القمع والتعذيب مركبًا وحداثويًا يتماشى مع خطاب حقوق الإنسان، حيث يحتاج الأخير ومؤسساته لجهد خاص لإثبات بعض الخروقات التي غالبًا ما تقدم من جانب القضاء والإعلام الإسرائيلي على أنها الإستثناء لقاعدة الإلتزام بحقوق الإنسان والأسرى. فيبدو كشفًا للتغطية، وشفافية لغرض التعتيم وحقائق لإخفاء الحقيقة.
إن القمع الحداثوي مُقنع مخفي ويقدم على أنه استجابة لحقوق الإنسان، إنه قمع لا صورة له، ولا يمكن تحديده بمشهد. إنه مجموعة من مئات الإجراءات الصغيرة والمنفردة، وآلاف التفاصيل التي لا يمكن أن تدلّ منفردة على أنها أدوات للتعذيب. إلا إذا أدركنا الإطار الكلي والمنطق الذي يقف من وراء هذه المنظومة. إنه تمامًا كالإستغلال في اقتصاديات السوق الحرّ في ظلّ العولمة، الذي يقدم دومًا على أنه ضرورة لرفع معدلات النمو الإقتصادي، إنه كالإستغلال الذي لا وجه له أو وطن أو عنوان محدّد لمستغلك. حيث تمتد أذرع احتكاره كالأخطبوط إلى كل زاوية من زوايا العالم، وإلى كل تفصيل من تفاصيل حياتك. فأنت المُستغل عاملاً أو مستهلكًا قد تصبح وفي نفس الآن مالكًا لأسهم الإحتكار الذي يستغلك.. هكذا بحيث تضيع الفواصل والحدود بين المستغِل والمستَغَل. فيغدو فهم الإستغلال أو تعريفه مهمة صعبة تكاد تكون مستحيلة في نظم الإنتاج الحديثة وسوق العولمة الحرّ.
لا يشبه القمع والتعذيب في السجون الإسرائيلية حالات القمع والتعذيب التي تصفها أدبيات السجون في العالم. ليس هناك حرمان فعلي من الطعام أو الدواء، ولن تجدوا من هم محرومون من الشمس ومدفونون تحت الأرض. لا يكبل الأسرى كما في الروايات بسلاسل مشدودة لكتل حديدية طوال النهار. فلم يعد الجسد الأسير في عصر ما بعد الحداثة هو المستهدف مباشرة، وإنما المستهدف هو الروح والعقل. لا نواجه هنا ما واجهه ووصفه فوتشيك في ظل الفاشية في كتابه "تحت أعواد المشانق"، وليس الحديث هنا عن ما يشبه سجن "طوزمارت" في رواية "تلك القمة الباهرة" للطاهر بن جلود. ولن تجدوا وصفًا يشبه ما وصفته مليكة أفقير للسجون المغربية. نحن هنا لا في سجن "ابو زعبل" ولا حتى "أبو غريب" أو "غوانتنامو" من حيث شروط الحياة. ففي كل هذه السجون تعرف معذبك وشكل التعذيب وأدواته المستخدمة. وأنت تملك يقينًا على شكل تعذيب حسّي مباشر. لكنك في السجون الإسرائيلية تواجه تعذيبًا أشد وطأة "بحضاريته" يحوّل حواسك وعقلك لأدوات تعذيب يومي. فيأتيك هادئًا متسللاً لا يستخدم في الغالب هراوة ولا يقيم ضجة. إنه يعيش معك رفيق الزنزانة والزمن والباحة الشمسية والوفرة المادية النسبية.
إن السجون كنموذج، وإن كانت هي موضوع هذه الدراسة، إلاّ أن حالة فقدان القدرة على تفسير الواقع والإحساس بالعجز وفقدان الحيلة لا تقتصر عليها، ولا هي من نصيب الأسرى وحدهم، وإنما هي حالة فلسطينية عامة. حيث تتطابق ظروف المواطن الفلسطيني مع ظروف الأسرى، ليس في شكل القمع فحسب.. أو حيث يحتجز المواطنون في معازل جغرافية منفردة، كما هم الأسرى معزولون عن بعضهم البعض في أقسام وعنابر لا صلة بينها إلا بإرادة السجـّان، وإنما هناك تشابه جوهري يتصل بالهدف الذي يريد أسراهم تحقيقه في كلا الحالتين.
والهدف الذي ندعي بأنه يريد تحقيقه هو إعادة صياغة البشر وفق رؤيا اسرائيلية عبر صهر وعيهم، لا سيما صهر وعي النخبة المقاومة في السجون. وبالتالي فإن دراسة حياة الأسر المصغرة عن حياة المواطنين في الأراضي المحتلة يمكنها تبسيط الصورة وإيضاحها لفهم المشهد الفلسطيني برمته.
لا ينتهي الشبه بين السجن الصغير والسجن الكبير فلسطينيًا عند هذا الحدّ. بل هناك تشابه بالقراءة الخاطئة والمعالجات التقليدية العاجزة عن النهوض بالقضية الفلسطينية كما هو النهوض بقضية الأسرى. إن النماذج الحاضرة في أدبيات القوى السياسية الفلسطينية في مواجهة الإحتلال، أو قراءة سياساته، ما زالت نمطية تُستمد شكلاً ومضمونًا من أدبيات حركات التحرر وتجاربها التي عقبت الحرب العالمية الثانية، وتشكلت في ظل الحرب الباردة، وفي مرحلة حضارية مختلفة عما نواجه اليوم. فكما أن أدب السجون لا يعكس واقعها اليوم، فإن الأدبيات السياسية وفرضياتها عاجزة عن معالجة الواقع السياسي. وبينما يواجه الفلسطيني منذ أكثر من 15 عامًا، واقعًا يستمد المُحتل أفكاره ونظرياته وأدواته القمعية من واقع حضاري ما بعد حداثوي، أو كما يسميه بويمن "الحداثة السائلة"  - فإن القوى السياسية الفلسطينية تبدو عاجزة عن تشخيص واقعها، وتقديم تفسير وحلول قادرة على أن تستنهض الجماهير، أو على الأقل واقعها، وتقديم تفسير وحلول قادرة أن تستنهض الجماهير، أو على الأقل أن تمنحها الإحساس باليقين، حتى وإن بدا هذا اليقين على شكل تفسير لكوارثها.
إن الأدوات والمفاهيم الفلسطينية في التحرر تخلفت عن الواقع فغدت بحدّ ذاتها أدواتا للقمع والتعذيب. وهي تقودنا رغم التضحيات المرة تلو الأخرى لطريق مسدود. إننا أشبه بمن يواجه حربًا نووية بسيف فما نراه في الواقع أو ما يبدو لنا أننا نراه جرّاء هذا العجز، هو أيضًا أشبه بحرب من كتب التاريخ كغزوة "الخندق" أو غزوة "أحد" فتصبح المسافة بين أدوات تغييرنا للواقع والواقع ذاته شاسعة، بحجم المسافة بين التاريخ والمستقبل.
هكذا هو حال الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية موضوع دراستنا. يَشـْكون حالا غير قائم، وما هو قائم غير قادرين على وصفه. إنهم يواجهون تعذيبًا ليس بمقدورهم تحديد شكله ومصدره. وهذه الأوراق لا ندعي بأننا نقدم من خلالها تفسيرًا شاملاً، أو تعريفًا وافيًا للتعذيب. بل هي ليست أكثر من صرخة تحاول قول افعلوا شيئًا قبل فوات الأوان. فمهمة كشف ما يجري في السجون وتوضيحه للرأي العام في إطار تعريف جديد للتعذيب، هي مهمة لجان حقوق الإنسان ولجان الأسرى. لكنها قبل كل شيء مهمة الفصائل الوطنية والقوى السياسية الفلسطينية. فالقضية المطروحة ليست قضية حقوقية أو إنسانية وإنما سياسية بالدرجة الأولى.
إن هذه الأوراق لا تدعي بأنها بحث علمي، فقد كتبت في السجن حيث لا مصادر جدية يمكن الإعتماد عليها، واعتمادنا أكثر على الذاكرة. على الأقل في تناولنا لما يجري في المعازل التي بنتها إسرائيل. خصوصًا وأننا محتجزون ومعزولون عن العالم ما يقارب ربع قرن. وذلك وبشكل أساسي لتبيان ما يجري في السجون الصغيرة على أنه ليس مجرد احتجاز وعزل لأسرى يشكلون خطرًا أمنيًا على إسرائيل. وإنما هو جزء من برنامج شامل ومخطط علمي ومدروس يهدف إعادة صهر الوعي الفلسطيني.
إن حالة نجاح أو فشل هذا المخطط مرهونة بالدرجة الأولى بقدرتنا على كشفه والوقوف على تفاصيله المحرجة في كثير من الأحيان، بعيدًا عن محاباة الذات والكذب عليها. فالمطلوب وضوح وصراحة، وبحث علمي وليس خطابًا حماسيًا يشيد بالأسرى ونضالاتهم وتضحياتهم، بحث يجيب على الأسئلة والتساؤلات التي نأمل أن نتمكن من إثارتها في هذه الأوراق.


         وليد/سجن جلبوع
أواخر تموز 2009










إبادة سياسية..
أقل من شعب.. وفق الإبادة المادية

ذهل الوفد الجنوب أفريقي الذي زار فلسطين - من حجم وطبيعة الإجراءات الإسرائيلية ذات الطبيعة الشمولية التي فرضتها على الفلسطينيين، والتي وصفوها بأنها إجراءات فاقت إلى حدّ بعيد ما قامت به حكومات جنوب أفريقيا في مرحلة الأبرتهايد. فلم يكن هناك وفي أسوأ مراحل الفصل العنصري شوارع للسود وأخرى للبيض، كما هو حاصل في الأراضي المحتلة حيث شوارع للعرب وأخرى لليهود. ولم يكن الفصل فصلاً كاملاً ومطلبًا إلى هذا الحدّ الذي أقامه الإحتلال. فقد ظلت على الدوام مناطق معينة يلتقي بها البيض والسود. وما زاد هذا الوفد الجنوب أفريقي ذهولاً وحيرة، وجعل مصطلح "الفصل العنصري" غير قادر على توصيف الحالة الفلسطينية تحت الإحتلال وتعريفها، هي الحواجز التي تفصل ليس بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب، وإنما بين الفلسطينيين أنفسهم. فإسرائيل كما هو معروف قسمت الأراضي المحتلة وقطعتها لمعازل صغيرة حوّلت حياة السكـّان إلى جحيم.

إن هذه الدراسة تدعي بأن اختلاف الهدف النهائي الذي تسعى حكومات إسرائيل لتحقيقه منذ السنة الثانية للإنتفاضة، عما أرادت حكومات جنوب أفريقيا تحقيقه عبر سياسة الفصل العنصري. هو ما يجعل الإجراءات الإسرائيلية بهذه الشمولية والعمق والسيطرة الكاملة على حياة المواطنين الفلسطينيين. فالهدف ليس الفصل العنصري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وإنما العنصرية هي أداة لتحقيق الهدف الأساسي الذي هو إعادة صهر الوعي الفلسطيني بما يتسق ومشروع الدولة العبرية. إن العنصرية في هذا السياق ليست عنصرية إسرائيلية شعبوية منفلتة وغير عاقلة كالعنصرية التي يمثلها المستوطنون، وإنما عنصرية منظمة تقف وراءها كامل المؤسسة الإسرائيلية بمنطقها وتبريرها القانوني والأخلاقي.

لقد أدركت إسرائيل أن المشكلة الحقيقية ليست مع القيادة الرسمية والمفاوض الفلسطيني، وإنما مع الشعب الفلسطيني الذي يرفض سقف الرؤيا الإسرائيلية للحل، ويبدي استعدادية للمقاومة مما يجعل رافد الفصائل المقاومة من المقاومين لا ينضب، ويحوّل أي إمكانية للتسوية مع المفاوض الفلسطيني لإمكانية مستحيلة التطبيق.

لقد صرّح قائد الأركان الإسرائيلي السابق "بوجي يعلون" أثناء سنوات خدمته العسكرية في الإنتفاضة، وفي أكثر من مناسبة وعلى نحو واضح وصريح، بأنه لا بد من "إعادة صهر الوعي الفلسطيني"  - وأن الخطط العسكرية لجيشه تستهدف تحقيق ذلك.
وعليه فإن تقسيم الأراضي المحتلة إلى معازل نقرأه في هذا السياق الإسرائيلي. سياق خطة صهر الوعي. وإن كان يقدم التقسيم كإجراء أمني يهدف إلى منع تنقل المسلحين، وإحباط صلة تحقق بين المناطق الفلسطينية المختلفة نقلاً للمعدات والخبرات القتالية، أو الوصول لقلب اسرائيل. وهي تستهدف فيما تستهدف تحقيق ذلك فعلاً. لكنها بالأساس أداة عنصرية من أدوات صهر الوعي بصفته الهدف العام الذي حدده قائد الأركان يعلون لجيشه.
لقد عنت المؤسسة الإسرائيلية في البداية بعملية "صهر الوعي"، هو جعل فكرة المقاومة فكرة مكلفة عبر هدم البيوت والقتل والتدمير الواسع. وقد بات من الواضح تمامًا اليوم بأن حجم القتل والهدم والتخريب، للمنشآت والمزارع، الذي كلفت بتنفيذه المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى حجم الإعتقالات الواسع في صفوف المواطنين الفلسطينيين، يفوق حاجات إسرائيل الأمنية. فقد أدرك القادة الإسرائيليون أن استخدام القوة العسكرية لوحدها، وفي ظل غياب أفق سياسي حقيقي سيجنون ثمارًا ونتائج عكسية. فالموت بالعشرات يوميًا لمواطنين عزل، جعل الموت أسهل من مراقبة مشهد الموت على مدار الساعة كل يوم. لقد دفع هذا الموت العشرات من الشباب يوميًا للإنضمام كاستشهاديين لصفوف المقاومة. ووجدوا به خلاصًا يحمل العزة والكرامة .
إن أي مقاومة بحاجة لبنية تحتية مادية ومعنوية، والجيش الإسرائيلي بإجراءاته التي استهدفت البنية التحتية المادية للمقاومة بغية الوصول لنقطة "صهر الوعي". وعلى نحو أدق إعادة تقييم الأدوات والسبل المستخدمة لوصول لهذا الهدف.
فإذا كان استهداف البنية التحتية المادية للمقاومة غير كاف لإحداث اختراق في الوعي الجماهيري الفلسطيني، عبر مراكمة كتلة حاسمة في فترة زمنية قصيرة، من قتل ودمار وإغراق المشهد بالدم، فإنه بدا من الضروري إضافة مركبات جديدة لعملية الإستهداف التي يعتقدون بأنها كفيلة لإحداث الإختراق المأمول لـ "صهر الوعي الفلسطيني".
إن المركبات الجديدة التي استهدفت هي عناصر البنى التحتية المعنوية للمقاومة. وعندما نتحدث عن "البنية التحتية المعنوية". نقصد بشكل خاص مجموعة القيم الجامعة التي تجسد مقولة الشعب الواحد في الحياة اليومية. إنه لمن غير الممكن بل والمستحيل أيضًا أن توحد مجموعة من البشر طاقاتها وإمكاناتها بل وأن تصبح مجموعة، دون أن يكون لها هدف أو مجموعة من الأهداف المشتركة لغالبية أفرادها. وإنه لمن المستحيل تمامًا أن تتشكل مثل هذه الأهداف دون أن تكون هناك قيم جامعة تمثل رابطًا معنويًا وقيميًا ينظم حياة أعضاء هذه المجموعة والتي من شأنها أن تحولهم من أفراد – إرادات إلى مجموعة شعب.
لقد مثل التعاضد والتكافل الإجتماعي الفلسطيني بين جميع الفئات والطبقات والمناطق الجغرافية، الذي تجلى بوضوح أكبر أثناء الإنتفاضة الأولى، التجسيد الحي والمادي المباشر لمقولة الشعب الواحد والمصير والآمال والأهداف الواحدة. وعندما نشير إلى الإستهداف الإسرائيلي للبنية التحتية المعنوية للفلسطينيين بهدف صهر وعيهم، إنما نقصد تمامًا استهداف هذه التجسيدات اليومية الصغيرة منها والكبيرة، ومجموعة الأنشطة والمفاعيل المنظمة والعفوية، الفردية والجماعية، المتناثرة والمركزة، والتي تعبر عن تركيبة نفسية ومعنوية تجعل الصمود تحت بطش الآلة العسكرية الإسرائيلية أمرًا ممكنًا، بل وجعلت ليس الصمود السلبي المتلقي ممكنًا فقط وإنما أيضًا الصمود الإيجابي المبادر.
إننا نميل للاعتقاد في هذه الدراسة بأن إسرائيل ومنذ عام 2004 أنجزت نظامًا علميًا شاملاً وخطيرًا، يعتمد أحدث النظريات في الهندسة البشرية وعلم نفس الجماعات بغية صهر الوعي الفلسطيني بتفكيك قيمه الجامعة. إننا أمام مجموعة من النظم والمستويات المتناغمة، السياسية والعسكرية والاقتصادية التي يمثل "صهر الوعي" واحدًا من أهم أهدافها. فيما يمثل هذا النظام الإسرائيلي بكليته حالة من حالات الإبادة السياسية – بوليتي سايد). فرغم إدراكنا للإشكالية التي قد يثيرها مثل هذا الإستخدام في تعريف الحالة الفلسطينية كإبادة سياسية، إلا أننا نعتقد بأن النظم التي وضعتها إسرائيل مخيفة بعلميتها ومنطقها العقلي وتشبه إلى حد بعيد حالات عرفت كإبادة سياسية  . حيث تشمل خططا وبرامج ومواقف تبدو للمراقب بأنها فوضى وارتباط وتناقض في السياسة الإسرائيلية لكنها في حقيقة الأمر فوضى منظمة تهدف إلى التالي:
1. تفكيك البنى والمؤسسات الفلسطينية الإقتصادية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني، ليس تفكيكًا كاملاً وإجهازًا كليًا وإنما إبقاؤها دون النظام وفوق الفوضى.
2. التفاوض السياسي الدائم دون توقف، وخلق الوهم بأن الحل بمتناول اليد ووشيك خلف المنعطف، وفي المقابل خلق وتثبيت الوقائع على الأرض عبر الإستيطان هكذا ليبقى الحال دون الحل وأكثر من الجمود.
3. تفكيك البنية التحتية لمقولة الشعب عبر الإجهاز على القيم الجامعة للشعب الفلسطيني لا سيما قواه وفئاته الحاملة والمدافعة عن هذه القيم كالأسرى بصفتهم الطليعة النضالية. هكذا ليغدو الشعب الفلسطيني أقل من شعب وفوق الإبادة المادية.
إن أخطر ما في هذا النظام أنه من الصعب الإحاطة به من قبل المواطن العادي والمتوسط، لا سيما وأنه نظام مقسم لمشاهد منفردة لا يرى منها المواطن إلا أجزاءً محددة. فيما يرى الإحتلال ويراقب ويحيط بكل المشهد الفلسطيني بأقل ما يمكن من الإمكانيات والزمن والتكلفة. وهذه الإحاطة الشاملة والنافذة لحياة الفلسطيني لم يكن بالإمكان تحقيقها دون التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات ووسائل الإتصال والمراقبة الألكترونية. ففي نظرة غير متفحصة بشكل خاص يمكن ملاحظة وبسهولة ما يعيشه الفلسطينيون من نظام شمولي وضعته إسرائيل، يشبه إلى حد بعيد ما وصفه جورج أورويل عن "الأخ الأكبر" في روايته (1948). حيث يراقب الأخ الأكبر – السلطة ليس السلوك والمواقف وإنما الآراء والأفكار التي تدور في عقول الناس. فإسرائيل تراقب المواطن الفلسطيني وتسيطر على حياته بالكامل تمامًا كـ"الأخ الأكبر". إن كان ذلك عبر الكاميرات المنتشرة في المدن، كالقدس، أو مراقبتها لكل المدن الفلسطينية عبر طائرات الإستطلاع والأقمار الإصطناعية. أو مراقبة الأثير مثل الهواتف المحمولة والفاكسات وأجهزة الكمبيوتر. الأمر الذي يمكنها عبر هذه السيطرة الشمولية التدخل في العمليات الإجتماعية والإقتصادية والتوجهات السياسية لمجتمع بأكمله. هذا بالإضافة لسيطرتها عبر الحواجز على مداخل ومخارج المدن والمحافظات. وبهذا المعنى، فإن الإبادة السياسية التي تنفذها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، هي مشروع حداثوي بالنظريات والأدوات التي تستخدمها وهو مشروع باعتقادنا لم يواجه شعب آخر في التاريخ مثيلاً له من حيث مستوى التقنية والدقة والشمول، إلا الإبادة الجماعية – المحرقة التي واجهها اليهود في الحرب العالمية الثانية على يد النازية.
  على الرغم من صعوبة الإحاطة بهذا النظام، فإنه بالإمكان تبسيطه وإدراك مركباته وتعقيداته عبر إجراء بعض المقارنات بين نموذج السجون الذي سيتركز به موضوع بحثنا ودراستنا، من جهة، مع ما يجري في الأراضي المحتلة من جهة أخرى. حيث نجد تطابقًا بين إجراءات الإحتلال هناك مع ما يجري هنا في السجون الإسرائيلية التي هي المختبر الذي يتم به اختبار السياسات التي تستهدف الحالة المعنوية والإجتماعية الفلسطينية.
إن التشابه بين السجون والمعازل في الأراضي المحتلة قد يفيد في حل الإشكالية المفاهيمية في توصيف الحال الفلسطينية.. حيث توصف حينًا بالفصل العنصري وحينًا آخر بالجيتو. فيما تجاوز الواقع هذه التوصيفات، وكثيرًا ما ترتبك القرارات التي قد تستند إليها. فقد تصف بعض أجزاء المشهد الفلسطيني لكنها عاجزة عن شمل كل المشهد والواقع الفلسطيني. فالفصل بين الفلسطيني والفلسطيني مثلاً لا يمكننا توصيفه على أنه فصل عنصري. كما أن معازل الفلسطينيين ليست جيتوات مؤقتة ومحطات يُجمعون فيها ما قبل "الحل النهائي" ، وإنما هي الحل النهائي، والمستهدف في هذا الحل ليس الجسد في إبادة جماعية، وإنما، إن صح التعبير، الروح في إبادة ثقافية وحضارية. وفي مجمل الأحوال لم يعد مفهوم "الإحتلال" كافيًا ولا حتى مصطلح "الإحتلال الإستيطاني"، لتوصيف شمولية وعمق الحالة بعد أوسلو تحديدًا.
إن مجمل هذه التوصيفات تؤدي إلى سياسة وتكشف عن أهداف إسرائيلية أكبر من حاصل جمعها. إننا أمام إبادة سياسية، وهدف هذه الدراسة تبيان مركباتها عبر نموذج السجون، وتفكيك عناصرها ومن ثم إعادة تركيبها عبر إطار نظري يوفر لنا الإمكانية لكشف النظام والإنسجام بيد مجمل تفاصيل السياسة الإسرائيلية.
إن ما يوفر لنا مثل هذا الإطار النظري، هو ما كتبه ميشيل فوكو في كتابه –المحاسبة والمعاقبة – ولادة السجن، حول المشتمل Panapticon نظام السجن الدائري لجرمي بنتهام ، وما طوره زيجمونت بويمن من فهم أكثر عمقًا بما يتناسب ومرحلة ما بعد الحداثة. كما أن ما كتبته نعمي كلاين بشأن عقيدة الصدمة يوفر لنا صورة واضحة بما يتصل بعمليات غسيل الدماغ الجماعية ومصدرها العلمي والنظري واستخداماتها العملية في تثبيت السياسات والنظم الإقتصادية بما يخدم المصالح الأمريكية في بعض الدول التي مرت بتجربة الصدمة.
وقبل أن نتركز في السجون كنموذج لعملية غسيل الدماغ أو زعزعة القيم الوطنية الجامعة التي تمثل مقولة الشعب في أوساط الأسرى الفلسطينيين، كما في أوساط المجتمع الفلسطيني بكامله – فإننا نعرض تحت عنوانين تعريفًا سريعًا للمشتمل كما يقدمه فوكو، وعقيدة الصدمة كما تعرضها نعمي كلاين، كأداتين أساسيتين سنستخدمهما في تحليلنا لما يحدث في السجون الإسرائيلية من أشكال تعذيب حديثة.
فما هو المشتمل؟ كيف يطبق في السجون الإسرائيلية كأداة سيطرة؟ وما هي عقيدة الصدمة.. وأين تبدأ الصدمة في حياة الفلسطينيين وأين لم تنته؟

المشتمل – Panopticon:
تأتي أهمية استخدام هذا النموذج من السجون فيما قدمه ميشيل فوكو من تطوير ودراسة لفهم القوة الحديثة واستخدامها في المراقبة والسيطرة.
فإذا كان ما أقامته إسرائيل من معازل للفلسطينيين في الأراضي المحتلة هو عبارة عن سجون كبيرة، وما تحاول تطبيقه بحق الأسرى داخل السجون الصغيرة هو استكمال لنفس السياسة هناك، فإنه من الطبيعي والأجدى دراستها أولاً بمثل هذه الأدوات النظرية. فالمشتمل هو الصورة الهندسية البنائية لهذا النموذج من السيطرة والمراقبة التي تقوم بها إسرائيل ليس بغرض الأمن ومتطلباته فحسب، وإنما لإعادة صياغة البشر عبر السيطرة الكلية عليهم وعلى تفاصيل حياتهم ومراقبتهم، أو خلق وهم المراقبة الدائم لدى كل مواطن فلسطيني.
يصف فوكو مشتمل بنتهام على أنه عبارة عن مبنى دائري الشكل وفي الوسط برج مراقبة، وفي داخل هذا البرج نوافذ واسعة تفتح على الوجه الداخلي للحلقة.
ويقسم البناء الجانبي إلى غرف معزولة. كل واحد منها هي بطول عرض البناء، ولكل غرفة شباكان؛ شباك من ناحية الداخل مطابق لشبابيك البرج، وشباك يطل على الخارج يتيح للنور أن يقطع الغرفة من جهة إلى جهة. عندها يكفي وضع ناظر في البرج المركزي، وفي كل غرفة يحبس مجنون أو مريض أو عامل أو محكوم، وفقًا لطبيعة المؤسسة التي بني من أجلها هذا المبنى. وبفعل النور المعاكس يمكن من البرج رؤية الظلال الصغيرة الأسيرة الموجودة في غرف الأطراف، والتي تنعكس تمامًا على الضوء. وبقدر ما توجد أقفاص، بقدر ما توجد مسارح صغيرة حيث ينفرد كل ممثل وحيدًا منفردًا تمامًا منظورًا بصورة دائمة. إن التجهيز المكشافي (البانوبتي يُعد؟؟؟ وحدات زمنية تسمح بالرؤية اللامنطقية وبالتعرف الآني وبالإجمال يقول ميشيل فوكو:
"إن هذا النظام يعكس مبدأ الزنزانة ووظائفها الثلاث.. الحبس، الحرمان من الضوء، والإخفاء. إلا أنه لا يحتفظ إلا بالوظيفة الأولى وتلغى الوظيفتان الأخريان. فالضوء القوي ونظرة المراقب تأسُر أكثر مما يأسُر الظل الذي يحمي في النهاية. إن الرؤية هي شـَرَكْ"
إن ما يتيحه مثل هذا النظام بالدرجة الأولى، هو تفادي الأسرى (أو الجماهير) ككتلة بشرية واحدة عبر تقسيمهم. حيث كل واحد محبوس في مكانه بصومته يُرى من قبل الناظر وجهًا لوجه. ولكن الجدران الجانبية تمنعه من الإتصال برفاقه، إنه مرئي ولكنه لا يَرى، إنه موضوع استعلام لكنه لا يشكل أبدًا موضوعًا في الإتصال، إنه جسم وموضوع متلقي سلبي، لكنه أبدًا ليس ذاتًا فاعلة.
إن انعدام الرؤية هذه هو ضمان النظام، فلو كان الموقوفون أسرى فلا خوف من وجود مؤامرة محاولة هرب جماعية أو مشروع للمواجهة. والأثر الرئيسي للمستشرف (بانوبتيك) هو الإيحاء للمعتقلين بوجود حالة واعية ومتواصلة من الرؤية الدائمة لهمه ومراقبتهم مما يؤمن وظيفية السلطة الأوتوماتيكية، ويجعل الرقابة دائمة بمفاعيلها وتأثيرها على المعتقلين حتى ولو كانت متقطعة وغير دائمة في عملها الفعلي. بحيث لا يكون هناك ضرورة للسلطة تجسيدًا وبصورة مكتملة كي تنفذ ممارساتها. فهذا الجهاز الهندسي آلة لخلق ودعم السلطة بصورة مستقلة عن الشخص الذي يمارسها إلى درجة أن المعتقلين أنفسهم يتحولون إلى حاملي هذه السلطة التي يمارسونها على أنفسهم. لقد وضع بنتهام المبدأ القائل بأن السلطة يجب أن تكون منظورة وغير ملموسة، منظورة بأن يكون ظل البرج المركزي العالي أمام ناظري الأسرى باستمرار حيث تتم مراقبته بصورة غير ملموسة، يجب أن لا يعرف أبدًا إذا كانوا تحت النظر الآن ولكنهم يجب أن يكونوا على يقين بأنهم قد يصبحوا تحت النظر دومًا.

عقيدة الصدمة:
في إحدى كراسات الإرشاد التي أصدرها الـ C.I.A لمحققيه والتي تتناول وسائل لانتزاع المعلومات من الأسرى أثناء التحقيق وردت الفقرة التالية: "هناك لحظة قصيرة جدًا يمر بها (الأسير) يكون أثناءها متجمد الذهن وفي حالة أشبه بالشلل النفسي. هذه الحالة تحصل نتيجة تجربة كارثية أو شبه كارثية تحطم عالم الموضوع (أي الأسير) وتقديره وفهمه لذاته في هذا العالم... محقق ذو خبرة يشخص هذا الوضع مباشرة ويعرف بأن المصدر ( أي الأسير) جاهز للتعبئة والإمتثال أكثر مما كان عليه في الماضي.
إن عقيدة الصدمة التي نعرضها هنا باختصار، تحاكي هذه التجربة تمامًا وبدقة. فما يسعى التعذيب لتحقيقه بعمله على الأفراد وفي غرف التحقيق، فإن عقيدة الصدمة تسعى لتحقيقه بمقاييس جماهيرية واسعة. ففي كتابها "عقيدة الصدمة" كتبت نعمي كلاين   بأن من أبرز الأمثلة لفعل الصدمة على نطاق جماهيري واسع هي صدمة الحادي عشر من أيلول. والتي مثلت بالنسبة للملايين من الناس، وتحديدًا الأمريكيون، حدثـًا "حطم عالمهم المألوف"، وجعلهم مفتوحين على مرحلة من فقدان الإحساس بالمكان والزمان. وجعل الفرد عاجزا عن معرفة هويته الذاتية وبدا شديد الإرتباط والإنكفاء. الوضع الذي استغلته إدارة بوش بمهارة عالية. حيث وجد الناس أنفسهم يعيشون بما يشبه عام الصفر. وغدوا صفحة بيضاء يمكن أن تكتب عليها الإدارة الأمريكية الكلمات والمفاهيم الجديدة التي أرادتها كـ"صراع الحضارات".."محور الشرّ".. "إسلاموفاسيزم" وغيرها .
لم تتشكل وتتطور عقيدة الصدمة في بداية الأمر كتجربة وخطأ داخل أقبية التحقيق، وإنما بدأت كتجارب على مرضى في معهد للطب النفسي وعلى يد أكاديميين في إحدى الجامعات الأمريكية. فقد مولت في سنوات الـ50 وكالة الإستخبارات الأمريكية الـ C.I.A تجارب غريبة قام بها طبيب كندي على مرضاه النفسيين في معهد "أولون" في جامعة ميكيجين تحت إشرافه كرئيس للمعهد. وقام هذا الطبيب والذي يدعى يووان كميرون، بحجز مرضاه في حالة من التخدير والعزل التام عن محيطهم. ثم عرضهم لضربات كهربائية وأعطاهم جرعات كبيرة ومتنوعة من المخدرات، الأمر الذي دهور حالتهم النفسية وأعادهم لفترة الرضاعة أو ما قبل القدرة على النطق. وفي حقيقة الأمر لم يكن هذا التدهور في حالة المرض مؤشر على فشل التجربة بل العكس تمامًا. فهو لم يشأ معالجة مرضاه وإنما كما نشر في مقالات عديدة له خلقهم من جديد. فقد آمن بأنه قادر من خلال إفقاد مرضاه قدرتهم على الإحساس بالزمان والمكان، وعبر محو ذاكرتهم وما يتصوروه عن أنفسهم أو محو ما تعلموه خلال حياتهم عن ذاتهم ومحيطهم وتحويلهم إلى لوح أبيض، يمكنه التغلغل لدماغهم. وأن ما يزرع السلوكيات والمفاهيم المرجوة. بكلمات أخرى لقد أراد القيام بغسل دماغ مرضاه وتحويلهم إلى لوح أبيض، يمكنه التغلغل لدماغهم. وأن يزرع السلوكيات والمفاهيم المرجوة. بكلمات أخرى لقد أراد القيام بغسل دماغ مرضاه وتحويلهم إلى أشخاص آخرين نفسيًا وعقليًا.
لقد أخذت نتائج هذه التجربة واستخدمت بأشكال ومجالات عدة وعلى نطاقات ومستويات مختلفة. بدءًا من صياغة إرشادات وكراسات لمحققي الC.I.A حول كيفية إنتزاع الإعترافات من الأسرى، حيث استخدمت عقيدة الصدمة في التحقيق مع سجناء المعارضة السياسية، كما تشير نعمي كلاين في دول عديدة كتشيلي في حقبة بينوشيه وفي بوليفيا ودول أمريكا اللاتينية عمومًا لغاية الوصول لأسرى الحرب في العراق وأفغانستان وفي جوانتينامو والسجون السرية الأمريكية المنتشرة في العالم منذ الحادي عشر من سبتمبر. كما استخدمت نتائج هذه التجربة في النظرية العسكرية التي تم صياغة الإستراتيجية الأمريكية في اجتياح العراق وفقًا لها، حيث سميت "الصدمة والترويع". بهدف ليس تحقيق الأهداف العسكرية في الإستيلاء على العراق وإنما في تحويله كمجتمع إلى ما يشبه الرضيع، كما ظهر أثر الصدمة على الأفراد في تجربة الدكتور يووان كميرون، في خنوعه واستعداديته للتعلم، أي بكلمات أخرى تحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع بدائي وما قبل وطني، هكذا صفحة بيضاء يكتب وينقش عليها المحتل الأمريكي ما يشاء. فالصدمة من شأنها أن تشل القدرة على التفكير المنطقي فتلغي القدرة على مقاومة إرادة المحتل. لكنه ولضمان عدم ظهور أي إمكانية مستقبلية يستعيد بها الواقع تحت الإحتلال والقدرة على التفكير بمنطق، وبالتالي استعادة فكرة المقاومة فإنه يجب تحطيم كل ما هو قائم من إمكانيات ونظم ومفاهيم تحطيمًا شاملاً، وكلما كان الدمار كبيرا وشاملا كلما كانت الصدمة عميقة تحول الفرد أو الجماعة إلى لوح أكثر نقاء.
إن الصدمة كما تبين كلاين في كتابها ليست بالضرورة حربًا يُبادر إلى شنها ضد بلد  بغية صياغته من جديد كما جرى في العراق، وإنما يمكن أن تتحقق الصدمة بأشكال عديدة كالإنقلاب العسكري أو هجوم إرهابي، أو انهيار اقتصادي أو كارثة طبيعية كالتسونامي. فهذه الأحداث والكوارث من شأنها أن تلين مجتمعات بأكملها تمامًا كما يفعل التعذيب الجسدي في غرفة التحقيق بالأسرى. فمثلما الأسير الخائف يكون مستعدًا أن يسلم أسماء رفاقه أو يتنكر لمعتقداته في لحظات يكون فاقد القدرة على التفكير جراء الصدمة، هكذا تكون المجتمعات أيضًا. فالمجتمعات المصابة بصدمة ميالة أكثر للتنازل عن مبادئها التي في ظروف أخرى ما كانت لتتنازل عنها.
لقد آمن أصحاب عقيدة الصدمة بأن بمقدورهم صياغة مجتمعات كما الأفراد وفقًا لمصالحهم وأهدافهم، وقد استخدمت نظريتهم في تعميم وفرض نظم اقتصاديات السوق الحرّ في دول عديدة. إن كان في دول أمريكا اللاتينية في أعوام السبعينيات أو في روسيا بعد انهيار الإتحاد السوفييتي بالإضافة إلى فرضه على جنوب أفريقيا بعد إلغاء نظام التمييز العنصري، ومحاولة فرض اقتصاديات السوق وخصخصة لبنان في مؤتمر باريس عقب "صدمة" حرب لبنان الثانية صيف 2006، وقد استطاعت دول أمريكا اللاتينية الخروج من الصدمة وآثارها الإقتصادية بعد 27 عاما تقريبًا، كما استطاع لبنان ومقاومته عبر إعادة الإعمار من رفض شروط الدول الغربية والبنك الدولي وإعماره بقواه الذاتية. وهكذا فإن الصدمة ليست قدرًا محتومًا وهناك إمكانية دومًا الخروج منها والإفلات من براثن ما يخطط للبلدان التي تقع تحت وطأة الصدمة إن كانت حربًا أو كارثة طبيعية .

الإضراب عن الطعام كصدمة ثانية..
وصهر الوعي للأسرى

عندما قصفت اسرائيل باجتياحاتها المتكررة المدن الفلسطينية والتجمعات السكانية بطائرات الـ F16 والأباتشي، واقتحمت بدباباتها الأحياء المكتظة بالسكان ودخلت كل زقاق وكل زاروب في نابلس وجنين ورام الله، وهدمت بجرافاتها الضخمة الـD9 البيوت على أهلها. فإن ذلك قطعًا لم يكن بهدف الملاحقة والقضاء على مجموعات صغيرة من المقاتلين الذين أكثرما في تسليحهم وأعظمه بندقية الكلاشين.. وحيث لا يملكون أي خبرة أو تدريب عسكري يذكر.
إن الأمن، وتحديدًا أمن جنودها المدججين والمحصنين خلف ترسانة من الأسلحة والحديد كان سببًا مباشرًا وميدانيًا قد يفسر مثل هذا الإستخدام المكثف للنيران والعنف والدمار. لكنه لا يفسر الهدف الرئيسي الذي تريد إسرائيل تحقيقه من خلال هذا الدمار الذي كان يستمر في أحيان كثيرة بعد انتهاء المعارك.
إن الهدف الرئيسي هو إحداث حالة من الرعب الشديد في أوساط المواطنين الفلسطينيين وجعل كل مواطن يصل لاستخلاص مفاده أن إسرائيل بقيادتها العسكرية والسياسية فقدت أعصابها وجنّ جنونها، وأنه لم يعد هناك قانون أو محرم من المحرمات في الحرب قادر على ضبطها. وقد رافق ذلك تصريحات لمسؤولين اسرائيليين تعزز مثل هذا الإعتقاد. وقد أعطيت التصريحات صدى إعلاميًا مقصودًا لتحقيق هذا الغرض. وانتشرت في المقابل تصريحات ومواقف لقادة ومحللين سياسيين فلسطينيين تطالب الأجنحة العسكرية للفصائل بالتوقف عن إعطاء الذرائع والمبررات لشارون وحكومته في الإستمرار بالقتل والتدمير العشوائي. واستندت هذه المواقف والتحليلات على فرضيتين؛ الأولى أن هذه الحكومة الإسرائيلية فعلاً جنّت فلا يجب إعطاء "هذا المجنون شارون مراده". وكأننا لا نتحدث عن دولة لها مصالح ويضبطها منطق أهدافها. "فالجنون" كما يتضح كان استراتيجية تستند إلى الكثير من حسابات العقل.. والفرضية الثانية هي أن الهدف الإسرائيلي من التدمير، وقف العمليات المسلحة لأجنحة فصائل المقاومة. وقد أعلنت هذه الأجنحة أكثر من مرة وقف العمليات وإعطاء فرصة للحوار لكنها قوبلت اسرائيليًا بالإغتيالات والمزيد من القتل. وكان أبرزها الهدوء الذي أعلن عنه قبل اغتيال رائد الكرمي قائد كتائب شهداء الأقصى في مدينة طولكرم. الأمر الذي يؤكد أن العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي لا علاقة لها بوقف أو عدم وقف العمليات من قبل فصائل المقاومة. فقد بدأت إسرائيل حربها بهذه الذريعة، لكن استمرار عدوانها لا يتوقف بانتفاء العمل المسلح الفلسطيني، أو كما كانت تسمية القضاء على "البنية التحتية للإرهاب".
لقد أرادت إسرائيل كما كان يصرح قادتها صباح مساء "جباية ثمن باهظ" ليشكل حالة من الصدمة الشديدة للفلسطينيين يؤسس عليها لاستثمارها في صياغة وعي الفلسطيني، بعد ضرب "البنى التحتية المعنوية" للمقاومة، يمكن لسقف شارون وحكومته في رؤيتهم للحل التعايش معه، لا سيما وأن إسرائيل بيمينها و"يسارها" اعتبرت أن الخلل الأساسي لدى الفلسطينيين هو ارتفاع سقف آمالهم وطموحاتهم، وبالتالي لا بد من تخفيض هذا السقف الذي تجرأ على قوة الردع لجيشها. الأمر الذي مردّه باعتقاد شارون، اتفاقيات أوسلو التي عارضها منذ البداية.
مثلما كانت الصدمة في تجارب الدكتور كميروون لم تكن بهدف علاج مرضاه، وإنما خلقهم من جديد عبر مسح ذاكرتهم وغرس ذاكرة جديدة بالعودة مرارًا وتكرارًا على رسائل صوتية مسجلة يبثها لهم حيث تحمل مفاهيم وسلوكيات جديدة ينوي غرسها بهم ، فإن الصدمة التي أرادت إسرائيل إحداثها في عقل ونفس المواطن الفلسطيني هي أيضًا لم يكن هدفها الأساسي إنهاء عمل الفصائل الفلسطينية المسلحة بجعل فكرتها أي المقاومة، مكلفة. وإنما محو مجموعة المفاهيم والقيم التي تشكل البنية التحتية المعنوية للمقاومة. وأولها مقولة الشعب والقيم الوطنية الحامية للنضال والمناضلين، واستبدالها بقيم ما قبل وطنية يسهل عليها التعامل معها. بكلمات أخرى إسرائيل أرادت للدمار والقتل إحداث صدمة من شأنها أن تفقد المجتمع والنخب الفلسطينية القدرة على التفكير المنطقي والمتوازن بما يسهل عليها عملية غسيل الدماغ الدماعي دون مقاومة. وعلى الأقل أن تحقق استدخال مفاهيم  وقيم تفرغ أطرها القائمة من محتواها المقاوم.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف لم تكتف إسرائيل بالدمار والقتل، وإنما تبعتها بمجموعة من الخطوات والإجراءات بدءًا بتقطيع الأراضي المحتلة إلى معازل وانتهاءً بموافقتها، إن لم يكن بدفعها، على خطة دايتون. هذا تمامًا يتطابق ومراحل تجربة الصدمة على المرض في معهد "أولون" في جامعة ميكيجن. فبعد "قصف" عقول مرضاه بكافة أنواع المخدرات والضربات الكهربائية، قام الدكتور كميروون بعزلهم عن العالم الخارجي بزنازين انفرادية، وعطل حواسهم بتغطية آذانهم وعيونهم وأكفهم حتى يفقدوا الإحساس بالزمان والمكان . ليصبحوا غير قادرين على تحديد هويتهم الذاتية. وهذا بالضبط الغرض الذي تؤديه عملية تقطيع الأراضي المحتلة إلى معازل في إطار خطة صهر الوعي. فالفلسطيني غير قادر بهذه الحالة من رؤية ومتابعة المشهد الوطني بكامله، وهو غارق في هموم وتفاصيل الجزء الذي يعيشه من الوطن فيكفّ بحكم العادة والتكرار ومرور الزمن عن التفكير كمجتمع متكامل. لتأتي مرحلة "إسماع الرسائل الصوتية المسجلة" ، أو عملية غرس المافهيم الجديدة. وهذا ما تؤديه خطة دايتون. فخطورة ما في هذه الخطة باعتقادنا ليس بعدها الأمني، وإنما القيم التي يربى عليها مئات الشباب ممن يتم تجنيدهم في إطار الأجهزة الأمنية. وممن يفترض أن يكونوا عماد أي حركة تحرر في نضالها ضد المحتل. فكما استبدلت "الثورة" بـ "السلطة" فقد استبدل "النضال" في تعبئة هؤلاء الشباب "بسيادة القانون" و "المقاومة" بضبط الأمن ومنع "فوضى السلاح". وقد استدخلت هذه المفاهيم فئات من المجتمع الفلسطيني جراء أخطاء فاحشة مورست أثناء الإنتفاضة.
وقد أصبح اليوم رفاق النضال ليسوا خصومًا، كجزء من موقف سياسي، وإنما أعداء كجزء من عملية تعبوية تربوية وثقافية. واحتل في أحسن الأحوال شعار "محاربة الفساد" مكانة مرموقة في الخطاب السياسي بدل "الحرية والإستقلال"، وهو شعار من المفترض أن ترفعه أحزاب ويحتل مثل هذه المكانة، في دول "شبعت" استقلالا لا في بلد ما زال يرزح تحت الإحتلال.
لا أحد عاقلا يعارض "سيادة القانون" أو حتى محاربة "فوضى السلاح" لكن هذه الشعارات وغيرها لا تطرح في سياق خطاب حركة التحرر التي تناضل ضد الإحتلال وفي إطار استراتيجيتها وبرنامجها، وإنما تطرح لتغييبها وتغييب القيم التي من المفترض أن يتم اشتقاقها منها كونها العنوان الرئيسي للمرحلة.
نحن وعلى كل حال لسنا في هذه الدراسة بمعرض تقييم مدى نجاح وفشل تطبيقات عقيدة الصدمة وتداعياتها في الأراضي المحتلة. الأمر الذي يستحق الدراسة من قبل دارسين وباحثين أكثر جدية منا نحن في ظروف الأسر. وإنما أردنا عرض المناخ العام، والأصح بعض من مناخ الصدمة العامة التي يجري في ظلها مواصلة العمل على تطبيقها تجاه الأسرى، ففي السجون لا تختلف تطبيقاتها إلا من حيث الحجم، وذلك سعيًا لصهر وعي ما يزيد عن أحد عشر ألف أسير فلسطيني ممن أطلقت إسرائيل عليهم نواة الإنتفاضة الصلبة.

لقد كانت تصل أفواج الأسرى تباعًا يوميًا وبالعشرات، وبدت السجون ما يشبه يوم الحشر، وكان من السهل ملاحظة الذهول والإرتباك على الوجوه، لكنه لم يكن ارتباكـًا كافيًا بنظر إدارة السجون للسيطرة على هذه الألوف. فبالنسبة لضباطها كان هذا الكمّ البشري خطيرا يجب استيعابه وبسرعة، والأهم السيطرة عليه سيطرة محكمة. فأن تنقل كتلة بشرية منتفضة ومقاومة إلى عنابر السجن، يعني نقل الإنتفاضة إليها إن لم يتم إحسان السيطرة عليها، وقد وقفت الأجهزة الأمنية لإدارة السجون علميًا أمام خيارين:
الأول: أن لا تتيح للأسرى الجدد التقاط أنفاسهم عبر خلق حالة من عدم الإستقرار بإجراء تنقلات دائمة لهم بين السجون، لكنها في هذه الحالة ستحول دون تشكلهم كأفراد اعتقلوا من مناطق مختلفة إلى جسم أو مجموعة تحكمهم قانونية وضوابط ما، بحيث من خلالها يمكن استقراء خطواتهم وتحركاتهم المستقبلية، الأمر الذي يجعلها قادرة على فرض سيطرتها.
الخيار الثاني: تمكين الحركة الأسيرة بأطرها القائمة من استيعاب هذا الكم من الأسرى وإدراجهم في هيكليتها الأمر الذي يعني انضباطهم للتقاليد التي تراكمت وأصبحت تنظم العلاقة مع السجان. وبالتالي سيكون بمقدور إدارة السجون من ناحية أن لا تتفاجأ بأي سلوك أو تحرك غير متوقع، ومن ناحية أخرى ستقف أمام جسم منظم ويشكل حالة نضالية ومعنوية تستنهض شعبها وقيادته السياسية.
وقد بقيت إدارة السجون تتعامل مع الأسرى وفقًا للخيار الثاني حتى نهاية عام 2003 ومنتصف 2004 إلى أن استعدت تجهيزًا وقوى بشرية للخيار الأول مستغنية عن تقاليد وأطر نظمت حياة الأسرى، لكنها في نفس الآن نظمت العلاقة مع السجان وعملت على استبدال المحتوى القيمي لهذه الأطر، أو جزء منها، وحطمت وفكفكت أجزاء أخرى كما سنلاحظ لاحقًا.
لقد رافق هذه المرحلة بالذات نقاش اسرائيلي بشأن ضرورة خلق قيادة بديلة و"شريك فلسطيني" يمكن التوصل معه إلى حل، الأمر الذي لوحظ أيضًا داخل السجون في السعي لتشكيل قيادة بديلة للأسرى من خلال فصل الرموز القيادية للفصائل وعزلهم عن باقي الأسرى في قسمين. ورغم أن العزل كأسلوب عقابي لم يكن بالجديد لكنه في هذه الحالة لم يكن عزلاً إنفراديًا كما في الماضي، باستثناء حالات قليلة، وإنما شمل أعدادا كبيرة من الأسرى ممن يشكلون الصف الأول والثاني من الكادر، وهذا كي لا يحدد العزل بزمن كما يقتضي العزل الإنفرادي من الناحية القانونية. فهو بالأساس لا يستهدف الأسرى كعقاب في هذه الحالة وإنما يستهدف خلق فراغ قيادي يتيح إفراز قيادة جديدة، والتدخل في العمليات الجارية بين الأسرى.
وإذا قلنا بأن السجون مثلت مختبرًا يتم به اختبار السياسات الإسرائيلية فإن الإجراءات في الأراضي المحتلة في بعض الأحيان تتطابق تطابقًا تامًا مع الإجراءات في السجون.
لقد عزلت القيادة الفلسطينية المؤثرة والرافضة للإملاءات الإسرائيلية في المدن الفلسطينية ومنعت من التنقل، بل وبعضها عزل عزلاً ما يوازي العزل الإنفرادي في السجون. وكما قطعت المناطق بعد الاجتياحات الكبيرة إلى معازل، بعد إحداث الصدمة، فقد وازاها في السجون خطوة شبيهة بعد الإضراب عن الطعام عام 2004 عملية فصل للأسرى في أقسام معزولة بعد أن أحدثت الصدمة المطلوبة من خلال الإضراب عن الطعام ونتائجه ليتم الإستفراد في كل قسم بمعزل عن جسم الحركة الأسيرة لتطبيق ما يشبه خطة دايتون ويوازيها قيميًا في الأسر، وذلك كله في إطار خطة صهر الوعي الذي دومًا يشكل الهدف العام والرئيسي لمجمل الإجراءات داخل وخارج السجون.
لم تعد السجون الإسرائيلية والأسرى الفلسطينيون، أو كما اعتدنا تسميتهم "الحركة الوطنية الأسيرة"، كما كانوا في الماضي قبل تسلم مدير السجون يعقوف جنوت منصبه. حيث يصف قدماء الأسرى الحال اليوم بأنه "عال ماديًا" و "متدن معنويًا" في نفس الآن. وهذا الوصف ليس مرده النوستالجيا التي قد تعيشها الأجيال وكبار السنّ منهم، حنينًا لماض اندثر. فقوم الأسرى ليسوا استثناء لهذه القاعدة، قاعدة الحنين إلى الماضي، حتى بما يتصل بحياة الأسر خصوصًا عندما يجري الحديث عن أسرى أمضوا ربع قرن أو ما يزيد من عمرهم في السجن، وإنما يعبر هذا الوصف عما جرى من متغيرات عالية نسبيًا بإنجازاتها المادية، لكنها منحطة بما تتركه من أثر معنوي وقيمي سلبي. لقد صور أحد الأسرى بعفوية وبساطة بالغة الحال القيمية للأسرى رغم البحبوحة المادية حيث قال: "كنا في الماضي مع بعض واليوم نحن على بعض". القول الذي من خلاله يمكن تلخيص مجمل المشهد الفلسطيني. لكن التناقض بين شروط الحياة الجيدة نسبيًا وبين إحساس الأسير بحالة من الإنحطاط المعنوي يعود بالأساس إلى عدم قدرة الأسرى على تعريف ما يواجهون وما يتعرضون له من قمع، فهو لا يأتيهم بأشكاله الفجة المباشرة والحسيّة، ومن ثم عدم قدرتهم على تحديد سبل ووسائل مواجهته.
وقبل أن نقف على ما اتخذته اسرائيل من إجراءات داخل السجون وتحليلها للوقوف على طبيعة التعذيب الحديث ووسائله وسبل مواجهته، فإنه لا بد من عرض سريع لبعض المقدمات التي كان من الضروري توفيرها. حتى تجعل حكومة شارون خطة صهر وعي الأسرى خطة واقعية التطبيق، بل وشاملة كما سيتبيّن لنا لاحقًا، وأن تكون إجراءاتها نافذة لغاية أدق التفاصيل في حياة الأسير وبزمن قياسي، وأن تنسجم بالتالي مع الخطة العامة لصهر الوعي الفلسطيني التي تشمل مهاما أخرى لأجهزة الدولة العبرية، كما سبق ولخصناها في نقاط ثلاث.. فقد اتخذت الإجراءات التالية:
أولاً: تم تعيين رجل عنصري مثل يعقوف جنوت على رأس الهرم القيادي لإدارة السجون. عُين جنوت لمنصبه هذا في أواسط عام 2003، وتلقى دعمًا مباشرًا من رئيس الوزراء أريئيل شارون، الذي على علاقة شخصية وقديمة به منذ أن كان قائده في كتيبة المظليين 101، وقد ذللت هذه العلاقة القديمة مع شارون كل العقبات البيروقراطية والإدارية التي من الممكن أن تعيق إعادة بناء وهيكلة إدارة السجون بما ينسجم ومهمتها الجديدة التي تتجاوز مهمة إحتجاز الأسرى. حيث منحه شارون مطلق التصرف في تحديد وتطبيق سياسته. هذا بالإضافة إلى زيادة الميزانية التي أتاحت له تجهيز السجون القديمة بتقنيات ونظم حديثة تتيح له ولشرطته إحكام السيطرة على تفاصيل حياة الأسرى، وبناء سجون جديدة تستوعب آلاف الأسرى الجدد ممن يعتقلهم الجيش الإسرائيلي أو حتى يخطط لاعتقالهم في إطار الخطة العامة لعملية صهر الوعي.
ثانيًا: قام جنوت بتوحيد السياسة في إدارة السجون والإنضباط لها من أصغر شرطي لغاية أعلى رتبة ومسؤول، وأصبح واضحًا تمامًا بأن هناك "مايسترو" وقائدا ومقررا واحدا. فلم يعد هناك تفاوت في تطبيق القرارات بين سجن وآخر، وأن وجد تفاوت فهذا بقرار وضمن خطة وتوجه، ولم يعد هناك مكان للعفوية والإجتهاد، فالهامش الذي كان متاحًا لمدير المنطقة أو السجن ضاق تمامًا.
ثالثًا: عمل جنوت منذ اللحظة الأولى لتسلمه منصبه على افتعال المواجهة مع الأسرى في أكثر من موقع أولها كان سجن عسقلان الذي تم قمعه بالغاز والهراوات، وقد أسفرت هذه المواجهة عن عدد كبير من الجرحى تم نقل عدد منهم للعلاج في مستشفيات خارجية. كما عقب هذه الواقعة إجراءات نعتقد بأنها وبالنظر إلى الوراء، كانت خطوة مخططـًا لها مسبقًا، وليس مجرد حادثة تهدف إلى رفع الأسرى لمربع الإضراب المفتوح عن الطعام موضوعًا وتوقيتًا. وقد تبين لاحقًا بأن جنوت هيأ كل الشروط اللازمة حتى يشكل الإضراب عن الطعام نقطة تحول في حياة الأسرى يتم استغلالها بما سيعقبها من سياسة، أو بكلمات أخرى أراد للإضراب أن يتحول إلى صدمة ثانية (بعد صدمة الإجتياحات والإعتقالات) وقوية، تعقبها عملية صياغة وغسيل دماغ.
رابعًا: شرعت إدارة السجون في تطبيق سياسة التفتيش العاري للأسرى على نطاق واسع، واستخدمت العنف المادي والمعنوي. كما استخدمت الكلاب في التفتيش على أجساد الأسرى وأمتعتهم بهدف الإهانة والمسّ بمشاعرهم الدينية. حيث يدركون بأن الكلاب تمثل في الثقافة الإسلامية نجاسة تستوجب التطهر منها، كما استخدمت الكلاب للترويع أثناء نقل الأسرى بين السجون. وقد تركت هذه السياسة آثارا نفسية ومعنوية بالغة الشدة على الأسرى مثلت أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت بهم نحو مربع الإضراب المفتوح عن الطعام لوقف الإهانة اليومية وإمتهان كرامتهم .
خامسًا: تم استكمال تركيب الزجاج العازل في غرف الزيارات. وذلك لضمان الفصل بين الأسير وأسرته. فلم يعد بمقدور الأسير أن يلامس أسرته؛ زوجته وأطفاله. واقتصرت العلاقة بهم على حاسة السمع . لكن الأهم ضمان وقف الصلة بالأهل قبل الإضراب تحديدًا، حيث من المعروف لإدارة السجون بأن تركيب الزجاج سيؤدي بالأسرى لاتخاذ موقف الإمتناع عن الزيارة. وهذا للإستفراد بهم بعزلهم عن أهم دائرة اجتماعية تشكل الداعم النفسي والمعنوي، فالزيارة بالنسبة للأسير ولقاؤه بأسرته يُعيد له توازنه النفسي وتقديره الذاتي وقدرته على مواصلة الصمود.
لم يسبق في تاريخ السجون الإسرائيلية بأن ألحت إدارة السجون وحثت الأسرى على خوض الإضراب المفتوح عن الطعام كما فعلت خلال الأشهر التي سبقت الإضراب في أغسطس/ آب 2004. بعد أن قامت بكل إجراءاتها آنفة الذكر، وأكملت استعداداتها لمواجهة الإضراب. وقد حاولت قيادة الحركة الوطنية الأسيرة الإنحناء لتمرير هذه الهجمة الشرسة، خاصة وأن غالبية الأسرى حديثو التجربة في الإعتقال. وذلك من خلال الإستجابة والتعاطي مع السياسة الجديدة لإدارة السجون، مع حفظ ماء الوجه مقابل تخفيف إجراءات الضغط والقمع التي تستهدف الكرامة الإنسانية والمشاعر الدينية. وقد قدم الأسرى رسائل عديدة بهذا المعنى إلا أن مدير الجسون قابلها بالرفض القاطع. حتى بدا الإضراب عن الطعام نهائيًا هو المخرج الوحيد أمام الأسرى.
لقد كان جنوت قد أعد العدة خلال عام كامل وجهز كل الإمكانيات لكسر الإضراب بوسائل حديثه تترك الأسرى في حالة من الصدمة الشديدة، أو على الأقل  إمكانيات لم تعهد مثلها الحركة الوطنية الأسيرة في إضراباتها الكثيرة من قبل. إن أهم ما في الوسائل التي أعدت كان اعتمادها على نظريات حديثة في علم النفس، وعلم نفس الجماعات ونظريات في الحرب النفسية والإعلامية والتضليل تمامًا كما لو كانوا يعدون خطة يواجهون بها جيشًا جرارًا وليس أسرى مكبلين وكل ما يملكونه من سلاح هو أحشاؤهم الخاوية جوعًا. وقد جند لهذا الغرض مهنيون ومختصون في هذه المجالات من خارج المؤسسة، قاموا بتفعيل الخطة لأدق التفاصيل لما يجب أن يؤديه آخر شرطي مناوب في أقسام السجن. ولم يتركوا أي قضية أو سلوك مهما كان صغيرًا وثانويًا للصدفة أو الإجتهاد الشخصي لأحد، لا لشرطي ولا حتى لمدير السجن. لقد تبين لنا بأننا أمام منظومة من الإجراءات القمعية مخيفة في منطقيتها تمتد من سجن جلبوع شمالاً حتى نفحة جنوبًا.
لقد رافق الإجراءات التي اتخذتها إدارة السجون ضد الأسرى أثناء الإضراب عن الطعام دعم سياسي من أعلى المستويات في الحكومة الإسرائيلية. وقد صرح الوزير المسؤول عن السجون – وزير الأمن الداخلي – تساحي هنجبي، بأن الأسرى المضربين عن الطعام بمقدورهم الموت فهو لا ينوي الإستجابة لمطالبهم .
وقد شكلت هذه الإجراءات، التي لا تدل منفردة على وجود تعذيب فوق العادة وغير محتمل، قوة ضاغطة نفسيًا وعصبيًا، رغم أن المشهد الأبرز هو تحد وصمود، حيث ومن جملة هذه الإجراءات نذكر التالي:
1. إبقاء النور مشتعل في الغرف على مدار ساعات اليل والنهار بهدف استنزاف أعصاب الأسرى بمنعهم من النوم.
2. مصادرة كل وسيلة بحوزة الأسرى مهما كانت تافهة وبسيطة، ولكنها قد تريحهم جسديًا كمالمخدات مثلاً... أو العبوات البلاستيكية والكاسات التي قد يتم استخدامها لملء الماء ووضعها بجانب الأسرة حتى لا يضطر الأسير السير نحو الحنفية كي يشرب، ولمنع أي مظهر تضامني بين الأسرى كتوزيع الماء باستخدام هذه العبوات والكاسات على الأسرى الذين يستصعبون النهوض للشرب بمفردهم بعد أن أرهقت أجسادهم جوعًا.
3. تمت مصادرة ملح الطعام من الأسرى، حيث اعتادوا تناوله أثناء الإضراب عن الطعام حتى لا تتحول الأضرار الصحية الناجمة عن الجوع إلى عاهة أو خلل صحي مستديم. وقد استصدرت إدارة السجون قرارًا (غير مسبوق) قضائيًا من محكمة العدل العليا يجيز مصادرة الملح. كما صادرت السجائر من الأسرى، وهذا الأسلوب استخدم لأول مرة كأداة ضغط ضد الأسرى المضربين عن الطعام.
4. خلق حالة توتر وعدم استقرار وذلك بإخراج الأسرى من غرفهم بحجة التفتيش عن "ممنوعات"، رغم أنه تم تفريغ الغرف من كل محتوياتها وأبقي فيها فرشة لكل أسير. كما أجريت تنقلات للأسرى بين الغرف وأقسام السجن بشكل دائم. مرتين في اليوم الواحد أحيانًا. فبالإضافة للإرهاق الجسدي الذي يحدثه التنقل للأسير أثناء الإضراب، كان الهدف فكفكة دوائر المعارف والأصدقاء التي تشكلت على مدار سنوات الإعتقال.. وبالتالي إضعاف الدائرة المعنوية المباشرة الداعمة نفسيًا لصمود الأسير.
5. إسماع الأسرى نداءات عبر مكبرات الصوت وتوزيع نشرات تهدف إلى إضعاف قناعة الأسير بخطوة الإضراب وقيادته، كأن يبث بأن الإضراب هو خطوة دفعت بها حماس خدمة لأجندات سياسية خاصة وليس بهدف تحقيق أي مطلب من مطالب الإضراب.. أو أن القائد الفتحاوي فلان قد كسر إضرابه وتناول الطعام.. الخ.
6. إقامة حفلات المشاوي للشرطة وبعض السجناء الجنائيين يوميًا في باحة السجن، وتناول الطعام أمام أعين الأسرى المضربين وبصورة استعراضية. وقد خصصت غرفة في كل قسم لإيواء سجناء جنائيين مهمتهم الطبخ وتناول الطعام وإسماع الأسرى موسيقى صاخبة ومزعجة ليل نهار.
7. وأثناء نقل الأسرى بين السجون، أو في الحالات التي تمت فيها إحالة الأسير المضرب عن الطعام على أثر تدهور حالته الصحية إلى المستشفى أو عيادة السجن استخدم العنف وجهاز الصدمة الكهربائية لحثهم على السير بسرعة. فهذا الجهاز يستخدم في الأصل لحث الأبقار على السير. كما استخدم جهاز كشف المعادن – الميجنوميتر في تفتيش الأسرى وهم عراة تمامًا بحجة البحث عن أدوات حادة مخبأة على أجسادهم!!
8. منع المحامين من زيارة الأسرى والتواصل معهم أثناء الإضراب، وذلك لإحكام السيطرة والعزل التام عن العالم الخارجي، ومنع تسرب أي خبر عن حملات التضامن والإعتصامات الجماهيرية دعمًا للإضراب. حتى لا تشكل هذه الأخبار داعمًا معنويًا معززًا لصمودهم.
لقد واءمت إدارة السجون إجراءاتها وعدلتها أثناء الإضراب بما يتناسب والتطورات في كل سجن بل وكل قسم من أقسام السجن الواحد. فالخطوات كانت محسوبة ولم تكن مجرد تنفيس غضب أو سادية تمارس على الأسرى لمجرد تعذيبهم وإلحاق الأذى بهم. فقد استندت إدارة السجون في إجراءاتها هذه كما تبين لاحقًا لخبرات عالمية كخبرة المخابرات الأمريكية وربيباتها من الأنظمة الحاكمة في دول أمريكيا اللاتينية في سنوات السبعينيات، إن كان ذلك بطبيعة الوسائل المستخدمة لقمع الإضراب أو الأهداف الرئيسية التي يستهدفها هذا القمع. حيث يروي الأسرى، الذين اعتقلوا وعذبوا في سجون الأرجنتين على يد الطغمة العسكرية الحاكمة في شهاداتهم أمام "لجان الحقيقة" بأنهم واجهوا جهازًا كان كل جهده وهدفه منصبا ليس على انتزاع المعلومات منهم فحسب، وإنما على إرغامهم على خيانة مبدأ أساسي اكتشف محققوهم بأنه يشكل جزءا جوهريا في قناعاتهم اليسارية، وناظما لمجمل سلوكهم السياسي، وهو مبدأ التضامن والشعور مع الآخر وبمجرد وقوف معذبيهم على أهمية هذا المبدأ لدى الأسرى، وضعوه هدفًا لهم لاستئصاله عبر العلاج بالصدمة. ففي الظاهر كان هدف التحقيق الحصول على معلومات كانت في الغالب بحوزة الأجهزة الأمنية، لكنهم كانوا معنيين بأن يقوم الأسير بخيانة رفاقه فهم معنيون بفعل الخيانة ذاته للقضاء على التضامن كمبدأ
وفي السجون السرية أو تلك التي تدار أمريكيًا بشكل مباشر مثل جونتانامو وأبو غريب كسر الأسرى وتحطيم شخصيتهم وتكوينهم النفسي عبر استخدام الإسلام والقناعات الدينية ضد الأسرى المسلمين. وقد ظهر في شهادات الأسرى الذين احتجزوا في هذه السجون مرارًا وتكرارًا شكلان أساسيان من التعذيب؛ التعرية.. ومضايقة الأسرى أثناء تأديتهم شعائرهم الدينية .
لقد استخدم التعري في حالة الأسرى الفلسطينيين قبل وأثناء الإضراب عن الطعام، وشكل سببًا رئيسيًا لخوضهم خطوة الإضراب. لكن مجمل الإجراءات التي اتخذت بغية قمع الأسرى استهدفت تمامًا حالة التضامن وقيم العمل الوطني المشترك. هذا التضامن الذي تبلور على مدار عقود من النضال الفلسطيني الأسير كان الحلقة الأهم التي تجمعت عليها مطارق السجان لفكها، ليس من أجل إنهاء الإضراب عن الطعام فحسب، بل ولإنهاء فكرة العمل الجماعي في أي خطوة إضراب مستقبلية . فالتضامن كمبدأ حوّل الأسرى من مجموعة أفراد وفصائل تختلف عقائديًا وأيديولوجيًا لقوة لم يكن بمقدور السجان، رغم ظروف الأسر، الحيلولة دون تضامنها وتواصلها مع نضال شعبها ونضال الشعوب وحركات التحرر.
لقد كان من المستحيل تمامًا تطبيق السياسة الجديدة التي اتبعتها إدارة السجون بعد الإضراب مباشرة، دون أن يشكل الإضراب ونتائجه صدمة شديدة يصبح من خلالها الأسرى أكثر سهولة على الصيغة والإمتثال لما كان يعد لهم في إطار خطة صهر الوعي، فقد كان حاضرًا في أذهان الأسرى ووعيهم الجماعي مجموعة من المفاهيم التي تحمل بمجملها دلالات العمل الجماعي، وتمثل قيم النضال الوطني الأسير المشترك. لهذا كان لا بد من ضربة تهز مجموعة المفاهيم والقيم المشتركة للأسرى لتقضي على لجانهم وأطرهم التمثيلية بصيغتها ومحتواها الوطني القائم ليكفوا عن كونهم جسما أو كيانا وطنيا أسيرا واحدا.
لقد فشل الإضراب عن الطعام في تحقيق مطالبه، ولكن الفشل الأهم والذي ستبقى تداعياته على حياة الأسرى لسنوات، هو نجاح إدارة السجون في فكفكة السجون والأقسام المضربة الواحد تلو الآخر لتوقف إضرابها ليس بصورة منظمة وبقرار قيادي واحد وبخطوة جماعية وبالتزامن مع كافة السجون كما دخلت الإضراب، وإنما بشكل فردي وفوضوي، وبمعزل عن الخطة والإتفاق. فمدير السجون مدركًا تمامًا بصفته عسكريًا سابقًا، بأنه حتى تضمن بأن لا تعود قوات عدوك لساحة القتال مجددًا بعد انسحابها بمدة قصيرة، لا يكفي أن تحتل مواقعها وتدحرها إلى الخلف بل يجب أن يبدو تراجعها وهزيمتها أبعد ما يمكن عن الإنسحاب المنظم أو وفقًا لقرار قيادي مركزي، وفعلاً فقد كان وقف الإضراب أشبه بالفوضى منها إلى الإنسحاب المنظم، ضمن من خلاله جنوت الإنهيار الكلي للهرمية القيادية لسنوات ومعها منظومة من القيم التي تحوّل الجنود من أفراد إلى وحدات قتالية. وهكذا أصبح الأسرى مهيئين أكثر للتشكيل وتطبيق خطة صهر الوعي.

الإجراءات بعد الإضراب..
الوفرة المادية كأداة تعذيب:
لقد تم فردنة الأسرى وخصخصة نضالهم الجماعي، كما خصخصت إسرائيل عبر إجراءاتها في الأراضي المحتلة المشروع الوطني الفلسطيني. ففيما الأقسام الخاصة بأسرى نابلس مثلاً أصبحت تطالب بزيادة عدد الزائرين وزمن الزيارة. فإن نضال أهالي نابلس تحول أيضًا مطلبيًا خاصًا بظروف حياتهم كفتح الحواجز أو غيرها من المطالب. إن معاناة الفلسطيني، كما هي معاناة الأسير الفلسطيني، قد قُسمت لمشاهد يرى منها الفرد وينشغل بها، مواطنًا أو أسيرا، بمقاطع خاصة بمنطقته الجغرافية. ولا يتاح له رؤية أو الإنشغال بمجمل المشهد إن كان ذلك عبر الإجراءات المباشرة التي تستهدف تقسيم مجال الرؤيا كالجدار والحواجز. أو عبر السيطرة على زمن الناس ليقعوا تحت وطأة الأعباء اليومية والقهر الدائم الذي يمارسه عليهم الإحتلال.
ولتحقيق المراقبة والسيطرة على الأسرى بشكل شامل بعد الإضراب عن الطعام في إطار تطبيق خطة صهر الوعي قامت إدارة السجون الإسرائيلية باستخدام نموذج التجهيز المكشافي-البانوبيتي عبر مجموعة من الإجراءات، مستغلة حالة التذمر والإحباط الشديد من الإضراب ونتائجه بهدف تكريسها وتوسيعها وتعميق خيبة الأمل التي سادت أوساط الأسرى. لكن الأهم هو استثمار حالة الإحباط الشديد من القيادة وانهيار البنى التنظيمية الوطنية والفصائلية الخاصة، وتوظيف ما أصاب فكرة التحرك والنضال الجماعي من زعزعة واهتزاز قويين في الإجهاز على القيم الوطنية الجامعة.
وقد كان من أبرز هذه الإجراءات التي اتخذت عقب الإضراب هي:
1. فصل أو تعميق الفصل بين الأقسام داخل السجن الواحد وعزلها عن بعضها البعض وفقًا لتقسيمات واعتبارات جغرافية. بعد أن تم تقسيم السجون إلى مجموعات وفقًا لمناطق جغرافية أكبر. هكذا مثلاً أصبح سجن "الجلبوع" سجنًا يضم أسرى شمال الضفة من نابلس حتى جنين، هذا بالإضافة إلى قسمين يحتجز بهما الأسرى من حملة بطاقة الهوية الإسرائيلية، قسم غالبيته من القدس وآخر من فلسطينيي الـ48. ويقدم هذا التقسيم دومًا على أنه خدمة للأسرى، واستجابة لمطالب لجان حقوق الإنسان التي تطالب إدارة السجون بأن يحتجز الأسرى في سجون قريبة لأماكن سكن أسرهم وذلك للتخفيف عليها في الوصول للزيارة. وهذا الإدعاء الذي يبدو منسجمًا مع مطلب الأسرى وحاجاتهم يخفي الهدف الحقيقي، فالأسرى ليسوا موزعين عشوائيًا على أقسام السجن، وإنما هم مقسمون على معازل وأقسام جغرافية أصغر داخل السجن الواحد. مثلاً قسم خاص بأسرى مدينة جنين لا يقطنه أسرى من مخيم جنين فلهؤلاء قسمهم. وقسم آخر لقباطيا وقراها وآخر لطولكرم وقسم لقلقيلية وقراها.. وهكذا تتطابق هذه التقسيمات والمعازل داخل السجن الواحد مع المعازل التي أقامتها إسرائيل في الأراضي المحتلة بحيث يصبح التقسيم الجغرافي إلى انتماء جغرافي يستبدل الإنتماء الوطني، مما يجعل عملية السيطرة أسهل وأكثر شمولاً، هذا بعد العمل من خلال ضباط الإستخبارات على خلق التناقضات وتأجيج الخلافات الوهمية بين هذه "الإنتماءات" البلدية والجغرافية.
2. تم إلغاء العمل بلجنة الحوار.. أو لجنة ممثلي الأسرى. فقد كان لكل سجن لجنة تمثل كل الأسرى المتواجدين في السجن وتتألف من مندوبي الفصائل المنتخبين، ومهمتها الإجتماع مع المسؤولين في السجن أو ضباط إدارة السجون لطرح قضايا ومطالب الأسرى المشتركة. وقد تحقق العمل بهذا الفهم وثبت بعد نضالات وتضحيات قدمتها الحركة الوطنية الأسيرة، واستبدلت هذه الآلية من العمل بفرز ناطق باسم كل قسم، وهو عمليًا ناطق باسم منطقة حيث يمثل قسما لمنطقة جغرافية. ويُحدد هذا المندوب من قبل إدارة السجن وبموافقتها بعد أن يسمي الأسرى إسمين أو ثلاث لتصادق إدارة السجن على واحد منهم. ويتم الإجتماع بمندوبي الأقسام ليس جماعيًا وإنما كل مندوب على انفراد. ويحق للمندوق طرح قضايا قسمة – منطقته فقط. وهي في الغالب مطالب فردية وفي نفس الآن يقوم هذا المندوب بنقل تحذيرات وتوجيهات وضوابط إدارة السجن للأسرى. وبهذا فرغت إدارة السجون التمثيل الإعتقالي للأسرى من محتواه الوطني الحقيقي. بحيث أصبح أقرب إلى "الكابو"  منه لممثل أسرى. وهذا الحال بعكس لجنة الحوار التي كانت مهتها تقديم مطالب جماعية لأسرى، بل وتقديم مطاب عامة تخص كل الحركة الأسيرة في كافة المواقع.
3. إنزال العقوبات الشديدة، فردية أو جماعية، بحق الأسرى في حال اتخذوا خطوات نضالية حتى وإن كانت رمزية وبسيطة، كأن يعيدوا وجبة طعام احتجاجًا على أمر ما يبدو حتى في نظر السجان بأن الأسرى محقّون بشأنه حتى لا تعود الثقة لفكرة النضال الجماعي، أو يحتل مبدأ التضامن مكانته كما كان قبل الإضراب عن الطعام.
4. منع أي مظهر جماعي مثلاً التعزية في حالة الوفاة.. استقبال أسير جديد.. أو توديع أسير في حالة الإفراج، ورغم استمرار إدارة السجون السماح للأسرى بتأدية صلاة الجمعة كجزء من الشعائر الدينية وكمظهر جماعي، إلا أنها لا تسمح بأن تتعدى الخطبة الحلال والحرام. إما أن تتناول الخطبة شأنا عاما حتى وإن كان المطروح معتدلاً، كأن تتناول الأوضاع الفلسطينية أو ذكر فلسطين، فهذا إبداء رأي وحرية الرأي ممنوعة.
5. إنزال العقوبات الشديدة بحق أسرى ضبطت بحوزتهم صور لقادة فلسطينيين أو شهداء، وصلت هذه العقوبات إلى الزنازين والحرمان من الزيارات وغرامات مالية، وفي غالب الأحيان تكون الصور مأخوذة عن صحيفة عبرية وقد تكون صورة الشهيد بحوزة صديقة أو قريبة أو حتى شقيقة. ومن الجدير ذكره بأن هذه الصور ليست معلقة في غرف الأسرى أو معروضة للمشاهدة وإنما مطوية ومخفية في ألبوم الصور الخاص بالأسير، الأمر الذي يؤكد بأن ملاحقتها ليس نابعًا من ملاحقة إبداء الرأي أو منعًا للتحريض فقط، وإنما ملاحقة الإعتقاد والتفكير. فملاحقة صورة قائد مثل صورة أبو عمار مطوية في ألبوم له علاقة بما يحسّ به الأسير أو يعتقده بشأن ما يمثله هذا القائد من انتماء لفكرة نضالية أو شعب أو قيم وطنية ما.
6. لقد راكمت الحركة الوطنية الأسيرة على مدار عقود من الإعتقال تقاليد تنظيمية تستند إليها في حال التعارضات الداخلية، وقيادتها للعمل الوطني في مواجهة إدارة السجون وسياساتها، كما راكمت تقاليد تعتمد القيادة الجماعية وعززت مبدأ الترشيح والإنتخابات داخل كل فصيل، وسعت دومًا لتعزيز الروح الديمقراطية وقد تبلورت هذه التوجهات بلوائح عامة تنظيم علاقات الفصائل ولوائح خاصة لكل فصيل تستند إلى مبادئ تدوير القيادة وتجديدها وتقديم التقارير الدورية لضمان الشفافية أمام القاعدة. ولمواجهة هذا الواقع الذي قد يفرز آليات تعيد ترميم ما أصاب فكرة النضال المشترك في الأسر، عمدت إدارة السجون بعد الإضراب إلى إجراء تنقلات وترحيلات مكثفة للكادر التنظيمي والوطني، لإرباك العملية الديمقراطية والحيلولة دون مراكمتها كتجربة أو نقلها للأسرى الجدد، وقد أبقت الأطر واللجان بعد أن فرغتها من محتواها وحولتها إلى عبء.
7. عمقت إدارة السجون نظام الصلة الفردي مع الأسرى عبر تقديم الطلبات الخاصة، ولم تعد طلبات الأسرى تقدم وتنجز جماعيًا إلا فيما ندر وفي قضايا شكلية ليست ذات قيمة، الأمر الذي جعل الكثير من الحلول فردية وخاصة بالشخص والحالة نفسها، ما خلق تفاوتا بين الأسرى من حيث شروط حياتهم والتعامل معهم من قبل إدارة السجن، ومنحها أداة ضغط وسيطرة إضافية تستخدمها في التلاعب على التناقضات الوهمية وخلقها بين أفراد وجماعات من مناطق مختلفة. وفي نفس الآن تستخدم العقوبات الجماعية في حال المخالفات الفردية. وهدف هذا التعميم هو تحويل ضغط الأسرى وضبطهم باتجاه الحالة -الشخص المخالف. الأمر الذي يحولهم إلى أداة ترويض لرفاقهم الأسرى وإلى حاملي السلطة بدل السجان.

إن مجمل هذه الإجراءات هدفها تحويل الأسير الفلسطيني من ذات فاعلة لها شخصيتها وقناعاتها، إلى موضوع سلبي ومتلق يعتمد بالأساس على حاجات مادية يتلقاها وفقًا لإرادة السجان، وتتحول بالتدريج إلى جوهر حياته واهتمامه اليومي خصوصًا عندما يعيب أي انشغال أو اهتمام آخر في واقع مغلق كالسجن. هذا بالإضافة إلى أن إدارة السجون تمنح الأسرى تسهيلات بل وتخلق الضرورات لاقتنائهم المواد الغذائية على نطاق أوسع بكثير مما يمنح للسجين الإسرائيلي الذي في الغالب توفر له شروط حياة تفوق شروط حياة الأسير الفلسطيني إلا في الطعام . وكأن حال إدارة السجون يقول للأسرى الفلسطينيين كلوا واشربوا وانشغلوا بمثل هذه الإحتياجات، المهم أن لا يتحول الأسير إلى ذات يدرك واقعه ونفسه ويفكر بمصيره أو مصير رفاقه.
يحدد ميشيل فوكو، بأن الزنزانة في نظام السيطرة والمراقبة لا تحتفظ إلا بوظيفتها الأولى وهي الحبس، وتلغي وظائفها الأخرى وهي الحرمان من الضوء والإخفاء. فالضوء القوي والرؤية الدائمة يصفهم على أنهم شرك  والضوء هنا يمثل بالنسبة لنا في السجون الإسرائيلية هي الحياة المادية المعقولة نسبيًا التي تحولت إلى شرك، وهذا الشرك بالذات هو ما يجب تحليله وكشف آليات عمله. حيث تحولت البحبوحة المادية إلى أداة تعذيب من جهة، ومن جهة أخرى تقدمها إسرائيل على أنها استجابة لخطاب حقوق الإنسان، لتعرض احتلالها أمام الرأي العام على أنه احتلال نير.
إن الأسرى الفلسطينيون باعتقادنا، هم الأسرى الوحيدون في تاريخ حركات التحرر الذين يتلقون مخصصات شهرية تغطي مصاريفهم داخل السجن بانتظام ودون انقطاع تقريبًا  ويتلقون معاشات شهرية كأي موظف في السلطة الفلسطينية . فنحن كما يبدو الأسرى الوحيدون من بين كل أسرى حركات التحرر الوطني الذين أصبح لنا وزارة في حكومة ليس لها دولة.
إن ما يثير الريبة من هذه الأموال  المصروفة للأسرى هو أن إسرائيل التي تحرص دومًا على ملاحقة الأموال والأرصدة بحجة ملاحقة "الأموال الداعمة للإرهاب" فإنها في حالة الميزانية الضخمة المصروفة على الأسرى، لا نجدها تبدي نفس الملاحقة أو تبدي معارضة جدية، الأمر الذي يدعو لتساؤل حول دور هذه الأموال والهدف الحقيقي من تقديمها وتأثيرها وتداعياتها على الأسرى ودورهم النضالي.
إن المبالغ التي تصرف على الأسرى المتواجدين حاليًا في السجون (فهناك صرف خاص بالأسرى المحررين) يصل ما بين صرف كانتين ومعاش شهري إلى ما يقارب عشرة ملايين دولار شهريًا. وهذه مبالغ كبيرة في المقاييس الفلسطينية.
إن الخلل ليس في أن يصرف لأسر وعوائل الأسرى، وأن تؤمن لهم حياة كريمة، بل وليس هناك أي خطأ في أن يوفر للأسرى بعض الإمكانيات المادية، لكن عندما يصرف نصف هذا المبلغ على الأسرى مباشرة داخل السجون، فإننا بذلك نموّل احتجازهم، بل ونجعل هذا الإحتجاز مربحًا لاسرائيل. فشركاتها هي التي توفـّر المواد الغذائية ومواد التنظيف للأسرى في إطار اتفاقية وقعت مع وزارة شؤون الأسرى الفلسطينية. لا يوجد هناك مادة يستهلكها الأسرى إلا ويشترونها على حسابهم. فإدارة السجون توفر كميات رمزية من هذه المواد، بينما أصبح احتجاز الأسير الفلسطيني في السجون الإسرائيلية على حساب السلطة الفلسطينية، التي تتلقى لهذا الغرض ميزانيات خاصة من الإتحاد الأوروبي والدول المانحة .
لقد أعفيت إسرائيل من الأعباء المالية لاحتجازها واحتلالها للفلسطينيين، بل ومن نتائج سياساتها ضد الأسرى، فالسلطة الفلسطينية بالإضافة لتغطيتها الغرامات المالية المفروضة بحق الأسرى  فإنها تغطي احتياجات الأسرى من سكان قطاع غزة بصرف خاص في ظل منع أسرهم من زيارتهم. هذا بدل أن تـُحمل اسرائيل تبعات هذه السياسة وأن تلاحقها في المحافل الدولية وأن تحملها مسؤولية هذا الخرق القانوني (الإجراءات بمنع زيارات أهالي غزة سبقت خطف الجندي شليط) المتمثل في احتجازها أسرى من أراض محتلة ونقلهم إلى داخل أراضيها من وجهة نظر القانون الدولي.
إن ما هو حاصل في الواقع هو العكس تمامًا حيث مكن إسرائيل من أن تحتجز أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين بأقل ما يمكن من تكلفة سياسية ومالية وأن تستخدم الوفرة المادية للأسير، والمقدمة أصلاً من الإتحاد الأوروبي، كواجهة تعرضها كدولة تمارس احتلال حضاريًا. هذا بالإضافة إلى أن هذا الحال ميع إمكانية حدوث انتفاضة أو صدام جدي بين الأسرى والسجان، لا سيما وأن الوفرة المادية والبحبوحة النسبية "تطفئ" أسباب المواجهة المباشرة وتميعها.
لقد تحول الأسير الفلسطيني الذي كان لا مصلحة له سوى النضال وتحرير الوطن إلى عضو في قطاع كأي قطاع في السلطة الفلسطينية، كقطاع الموظفين مثلاً، له مصالح مالية ومطلبية، وبمثل هذا المناخ ولجانب مجموعة من العوامل الأخرى ذات التأثير. بالإضافة إلى سياسة التفريغ الممنهجة تتطور ديناميكيات ويتشكل مناخ نفسي وتربوي يقود الأسير إلى الإنتقال بسهولة من النضال التحرري الوطني إلى النضال المطلبي، لكن نضاله في هذه الحالة لن يكون موجهًا بالضرورة ضد سلطة الإحتلال وإدارة سجونها، وإنما ضد السلطة الفلسطينية كـ"مشغل" له!! إننا وبكلمات أخرى، نمول وبإرادتنا مشروعًا إسرائيليًا لإخراج الأسرى، نواة النضال الصلبة، من دائرة الإنشغال بالهم الوطني والنضال التحرري إلى دائرة الغرق بالهمّ المطلبي الخاص. الأمر الذي ينسجم مع الهدف والخطة الإسرائيلية العامة، لا سيما الإجهاز على القيم الجامعة لهذا القطاع والتي تمثل أساس مقولة الشعب.
كما أن الواقع المادي الذي يعيشه الأسرى يخلق حالة من التشوّه الإجتماعي والنفسي للأسير. حيث تعيش قطاعات من الأسرى واقعًا ماديًا أفضل بكثير مما تعيشه أسر كثيرة في الأراضي المحتلة، وعلى كل حال فإن الأسرى يعيشون مستوى من الحياة المادية تفوق قطعًا ما يعيشه الأهل في قطاع غزة في ظل الحصار. الأمر الذي يخلق توترًا نفسيًا جراء التناقض بين ما يعيشه الأسير من واقع، وبين ما يدركه حول واقع شعبه وما كونه من وعي لذاته بشأن دوره تجاه هذا الشعب الذي يناضل من أجل تحرره. ويصبح هذا التشوّه أكثر عمقًا وشمولاً عندما يتفاعل في ظل مناخات تسود بها ثقافة إنسانية تتحدث عن نسبية الحقائق القيمية والأخلاقية. ويرتبك الإنسان العادي والمتوسط منهم، فلا يعد مفهومًا وواضحًا له أين يبدأ أو أيبن ينتهي السجن أو الحرية في الخارج حيث الكنتونات والمعازل.. أم هنا داخل المعتقلات الإسرائيلية.
وعندما يرافق هذا الواقع خطة وسياسة موجهة لتفريغ وفردنة الأسرى، وتحطيم كل ما من شأنه أن يحولهم إلى جماعة، عبر مواجهة التفكير أو مجرد الإعتقاد بفكرة العمل والنضال.. أو الهوية المشتركة من خلال إنزال العقوبات الصارمة جدًا بحق الأسرى. فإن إمكانية استثمار هذه البحبوحة المادية لرفع مستوى الأداء الوطني والإرتقاء بالوعي والإنتماء تصبح إمكانية ضئيلة وصعبة. فهي لم تـُوفر كما وضحنا، ببراءة ولوجه الله.
إن الخشية من فقدان الوفرة في ظل الحرمان من الحياة والحرية حولتها، أي الوفرة، إلى جهاز داعم للسلطة وصانع لها تلقائيًا، بمعزل عن شخوص ممارسيها من شرطة السجون. حيث حولت الأسرى أنفسهم لحاملي السلطة التي يمارسونها على أنفسهم لئلا يفقدوا وفرتهم المادية. بل ومع مرور الوقت يتحول إلى عجز مكتسب لدى الأسرى حتى في ظل غياب التهديد الفعلي بمصادرة مكتسباتهم المادية.
وفي واقع مغلق كالسجون سرعان ما يعمم هذا العجز على الأسرى حديثي التجربة ليغدو عجزًا متوارثًا، الأمر الذي يضمن استمرارية السلطة عمليًا حتى في ظل غيابها فعليًا.
لقد اكتفت إدارة السجون بإضعاف البنى التنظيمية للأسرى وأفرغتها من محتواها عبر استخدامها الوفرة وشروط الحياة المعقولة التي حولتها لأداة ذاتية الضبط الداخلي لهم. فهي وإن أتاحت شكلاً معينًا من الحياة المنظمة إلا أن هذا "الكرم" الإسرائيلي يبدو شركـًا. حيث هي شعرة التي تفصل بين الحياة المنظمة والإنضباط وبين الخنوع والإمتثال. وهذا الشرك شأنه شأن أي "ضوء" – وفرة أخرى تقدمها ما دام توفيرها يوفر لها "إخفاء" أكثر من أي "ظل" – حرمان، خصوصًا وأن الإخفاء في الظل سيكون من السهل التحريض عليه والعمل ضده أمام لجان حقوق الإنسان والرأي العام.
إن حالة العجز التي يعيشها الأسرى في قدرتهم على تشخيص واقعهم تجلت بصورة فجة في السنوات الأخيرة وفي الحالات القليلة والموسمية النادرة التي أقدموا بها على التحرك والنضال الجماعي. حيث لجأوا لذات الوسائل ولذات الحلول التي لجأوا إليها في الماضي مشتقين وسائلهم من قراءات لواقع متخيل لم يعد قائمًا، واقع استهداف الجسد بالهراوة والتعذيب المباشر.
إن الشعور بالمعاناة حقيقي، لكن تشخيص ما يراه الأسرى في الواقع كمصدر للمعاناة ليس حقيقيًا، فهم كمن اعتاد تشخيص الواقع "مسامير"، فيرى الحلول أمامه بالضرورة "شواكيش".. وكلما كانت معاناتهم أشد كلما كانت الرغبة في تفسيرها أقوى، مما يقودهم هذا الإلحاح النفسي لتفسير مصدر عذابهم، إلى التهويل والتضخيم، وسرعان ما تتبين الصورة ويصطدمون بحقائق الواقع مما يزيد من عذابهم ووحدتهم.
لم يعد الأسير بجسده هو المستهدف، ولا يعذب بالحرمان المادي والتجويع وإنما الروح والعقل هما المستهدفان، والوفرة المادية هي وسيلة من وسائل التعذيب الحديث. وبالتالي فقد بات من الضروري إعادة تعريف التعذيب والقهر والإضطهاد وكشف تفاصيله الحداثوية المركبة. إن الأسير يطحن ويعذب بين شكل الزمن الثابت في علب المكان داخل السجن، وبين محتوى الزمن الذي تحرر من أعباء المكان وأصبح في زمن ما بعد الحداثة بسرعة الألكترون.
فالمتغيرات في واقع المكان والحضارة والناس، التي كانت تحدث خلال عام من الأسر قبل عشرين عامًا، هي أقل بكثير مما لا يقاس عما يتغير خلال عام في عصرنا الحالي. وما يفقده الأسير من صلة بواقعه خارج الأسر خلال أشهر قليلة أصبح كارثيًا يجعله فاقد الصلة بالحضارة والناس وقيمهم وعلاقاتهم الإجتماعية.. بحيث يتحول خلال أعوام قليلة في السجن إلى متخلف قياسًا للواقع خارجه. إن هذا الفارق يحول بزمن قياسي الأسير الفلسطيني إلى فاقد الصلة بالواقع ويستغله الإحتلال بكل أجهزته بما فيها إدارة السجون لتكريسه وتعميقه من أجل فصله كليًا عن أي مشروع وطني أو تفكير جماعي ويدفع به للإغتراب كليًا، كافرًا بالنضال أو في أحسن الأحوال يحوله إلى عبء على شعبه وقضيته الوطنية.

السيطرة الحديثة
تجليات قيمية خطيرة في حياة الأسرى الفلسطينيين:

إن جوهر الحداثة هو قدرة الإنسان على فصل الزمان عن المكان، كما أن تاريخ الحداثة بدأ مع تطوير الإنسان تكنولوجيا مكنته من السيطرة بشكل مطرد كلما تمكن من إحداث هذا الفصل. وعندما أصبحت سرعة الإنتقال في المحيط من محيط مكاني إلى آخر بسرعة الألكترون بات للسيطرة معنى وشكل آخر عما نعرفه. فللسيطرة على الناس كان في الماضي لا بد من السيطرة على مكانهم، فيما الحداثة التي فصلت الزمان عن المكان جعلت السيطرة ممكنة بالسيطرة فقط على زمانهم . إن لهذا الشكل من السيطرة تداعيات كثيرة على حياة الأسرى وتقديرهم وفهمهم لأنفسهم. كما له تأثيرات على سلوك السجان وإدراكه لذاته ودوره في إطار عمله ضمن جهاز بيروقراطي كإدارة السجون.
لم تعد السيطرة في سجون الإحتلال الإسرائيلي سيطرة مباشرة عبر السجانين الذين كانوا يتواجدون ماديًا ومباشرة في باحة السجن، ويقومون بفتح الأبواب وإغلاقها. ولم يعد كما في الماضي هناك احتكاك يومي ومكثف بين السجين والسجان، إلا استثناء للتأكيد على قاعدة غيابه منظورًا وحضور ظله عبر آليات وتقنيات حديثة. لقد استبدل البرج المركزي أو ظله في نظام مشتمل بنتهام بالكاميرات المتواجدة في كل زاوية من زوايا السجن، واستبدلت أقفال الأبواب التي كانت تستدعي حضور السجان وتواجده المباشر لفتحها يدويًا بنظام فتح وإغلاق ألكتروني، حيث يكفي اليوم وجود شرطي واحد في غرفة المراقبة، للسيطرة على قسم مؤلف من مئة وعشرين أسيرًا (120). قد أظهر هذا النظام الأسرى وكأنهم يديرون حياتهم وشؤونهم الداخلية بأنفسهم وباستقلالية، أو هكذا يمكن أن يعتقد المراقب من الخارج. بل إن هذا الوهم ينطلي على الأسرى أنفسهم. حيث يغلقون أبواب الزنازين بأيديهم، بعد أن يعطي السجان في غرفة المراقبة والسيطرة الإجازة الألكترونية لفتحه.
إن هذا الحال لم ينقل السيطرة من السجان إلى الأسرى، ولم يخففها، وإن كان قد جعلها تبدو أكثر قبولاً. بل العكس تمامًا، حيث حول السيطرة من سيطرة مرئية مصدرها واضح وقابل "للخداع" أو "للتفاوض" و"الأنسنة" إلى سيطرة آلية شديدة الضبط كلية المراقبة، والعنصر البشري فيها، اي السجان، خارج مجال التأثر باستراتيجيات الإقناع فهو أيضًا واقع تحت وطأة كاميرا المراقبة التي ألغت تلقائيته ومهاراته الإجتماعية وحولتها إلى آلية وأوتوماتيكية. وسهلت عملية الأنسنة تجاه الأسير. فهذه المسافة التي صنعتها تكنولوجيا المراقبة بين السجين والسجان حوّلت الأخير إلى أكثر قسوة فهو لم يعد يتعامل مع ذات وإنما موضوع يراه على الشاشة. الأمر الذي حوّل أيضًا مهارات الأسرى كأفراد وجعل ذكاءهم الإجتماعي إلى أمر لا ضرورة له وليس ذو قيمة عملية. فالعلاقة بين الأسير والسجان أصبحت تدار في سياق آخر جديد، لا يتيح له استخدام أو التأثير عبر أي وسيلة من الوسائل القديمة.
لقد أتاحت تكنولوجيا المراقبة والسيطرة الألكترونية في السجون الإسرائيلية إلى تفرغ أعداد هائلة من القوى البشرية التي تم توجيهها لسجون جديدة افتتحت لاستيعاب الآلاف من الأسرى الجدد. وقد أتاحت سهولة استخدام وسائل السيطرة الحديثة تجنيد سجانين ذوي إعاقات جسدية ومكونات بنية ضعيفة لم تؤهلهم في الماضي للتجنيد. واستيعاب سجانات من الجنيس "اللطيف" تمشيًا مع الخطاب الليبرالي الإسرائيلي في مساواة الجنسين، فأصبحت المرأة تشارك الرجل الإسرائيلي في قمع الفلسطيني أو في إعادة "صياغته" و "ترويضه".
إن جملة التناقضات التي يخلقها هذا الواقع في السجون، إلى جانب القدرة على السيطرة الكاملة والشاملة والكلية على أكبر عدد ممكن من الأسرى وفي أقصر مدة زمنية وبنفس الآن، جعل إمكانية تطبيق خطة صهر الوعي لهؤلاء المناضلين الفلسطينيين إمكانية عملية. فالتناقض بين غياب السجان تجسيدًا ووجوده فعليًا كمسيطر على حياة الأسير، خلق لديه حالة من التنافر الذهني بين ما يدركه في الحقيقة ويحسّ به من قمع وسيطرة على حياته، وبين واقعه الذي يظهره في استقلالية نسبية في إدارة حياته.
إن السجن الحديث بصورة عامة ليس سيطرة وحجزًا للجسد فقط، وإنما سيطرة على زمن الأسير. فلم يعد زمن الأسير ملكه ولا يمكنه تنظيم ساعات النهار وفقًا لبرنامج يحدده لذاته، إنه لا يمضي وقته داخل الزنزانة حرًا بزمنه، بعيدًا عن تدخل وسيطرة السجان، بل إن زمنه خاضع للسجان الذي يقسم وحداته هكذا بحيث لا يمكنه التصرف به أو برمجته وفقًا لرغباته وحاجاته. فبالإضافة لخروجه للباحة الشمسية بساعات محددة يقررها السجان، فإن الأسير في السجون الإسرائيلية مجبر يوميًا على مغادرة زنزانته ثلاث مرات حتى يتم فحصها أمنيًا، وعليه أن لا يستخدم الحمام سبعة مرات مختلفة في اليوم، لمدة ساعة كل مرة، ثلاث مرات في أوقات إجراء الفحص الأمني المذكور، وأربعة أخرى أثناء إحصاء الأسرى للتأكد من عددهم – هكذا بحيث لا يمكنه أن يبدأ يومه أو يخططه.
إن التناقض بين كون الأسير فاقد للحرية ويُغلق عليه باب الزنزانة، وبين كونه يفتح بيديه الباب ويغلقه على نفسه وفقًا لهذا الواقع الجديد في السجون، يدفعه لحاله من التوتر والتنافر الذهني جراء الرغبة في الحفاظ على "مكتسب" فتح الباب والإحساس بالسيطرة من جهة، وبين كونها سيطرة وهمية تدخله لشرك الترويض النفسي والمعنوي من جهة أخرى. إنها حالة أشبه بمنح الأسرى الـ "فرصة" والقيود ليقيدوا أنفسهم بأنفسهم.
كما أن الأسير الفلسطيني يعي ذاته، وكوّن حول نفسه تصورًا على أنه البطل الذي يقارع الإحتلال وشكل قلقًا لأجهزتها الأمنية يعيش، نفس هذا الأسير، تناقضًا شديدًا بين هذا التصور الذاتي لنفسه وبين كون سجانه الذي يسيطر على حياته فتاة لا يتجاوز عمرها العشرين عامًا، وتتحكم بقسم مؤلف من 120 أسيرا. إن هذا التناقض يزداد حدة ويصبح ذا تأثير نفسي جدي على الأسرى عندما يجري الحديث عن أسرى ينتمون لمجتمع بغالبيته يعتبر سيطرة المرأة على الرجل مهانة وانتقاصا من رجولتهم، مما يؤثر سلبًا على تقديرهم الذاتي لأنفسهم بصورة عامة وعلى تقديرهم الذاتي في القدرة على تغيير الواقع بشكل خاص.
لا ينتهي التناقض في حياة الأسير في ظل آليات السيطرة الحديثة عند بوابات السجن وأسواره. فصورة واقع السجن كما هي مصورة في الأدب والشعر والإعلام، لا سيما الإعلام العربي، مأخوذة عن مرحلة مختلفة حضاريًا لا تشبه الصورة كما هي في واقع السجون اليوم، ورغم أن هذا الواقع أشد وأقسى برأينا، إلا أنه لا يوجد أي تطابق بين السجان الوحش في الأدبيات، وبين سجانة فتاة في العشرين من عمرها. لقد تغيرت صورة السجان وأصبح شكلاً وهندامًا أقرب للموظف في بريد أو بنك، الأمر الذي عطل حتى القدرة أو إمكانية استخدام الأدب والشعر بمفرداته ولغته وصوره القديمة لتصوير المعاناة والعذاب دون أن يكون مجافيًا للحقيقة، ودون أن يكون مضخمًا للصورة.
لقد أصبح هناك ضرورة لأدوات أكثر قدرة على تفسير وشرح التعذيب الحديث والمركب. أدوات ربما مستعارة من علم الإجتماع والفلسفة.
إن مجمل هذه التناقضات التي يعيشها الأسرى الفلسطينيون مضافًا لها الوفرة المادية كأداة تعذيب، كما أوضحناها، والتناقضات السياسية بكل ما حملت منذ اوسلو، وبالذات منذ اندلاع الإنتفاضة الثانية، يجعلهم في أحسن الأحوال مفتوحين على تفسيرات ومفاهيم جديدة تمنحهم يقينًا بشأن مصدر معاناتهم الحقيقي. لكنهم في ظل غياب التفسير العلمي الملتزم والمنحاز للقضية الوطنية، سيكونون عرضة للتأويلات الإسرائيلية التي تهدف زعزعة قيمهم الجامعة وتسهل عملية صهر الوعي. والسجان يدرك هذه التناقضات تمامًا ويستغلها شرّ استغلال.
إنه لمن المؤسف حقًا بأن لجان حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن الأسرى بصورة عامة والفلسطينية منها بصورة خاصة، ما زالت لا تقدم أي تفسير علمي جاد لهذه الممارسات الإسرائيلية التي تقرأها كإجراءات وأحداث منفصلة لا تربطها قانونية أو منطق سياسي. وتتواطأ في تعاملها مع الواقع كما هو، وتنساق في معالجاتها جراء هذه القراءة المتقطعة مع ما هو قائم من آليات وأدوات. ففي أحسن الأحوال تنشر التقارير بشأن هذه الممارسات دون أن تقدم تفسيرًا لها. ولا يوجد هناك أي بارقة أمل في التفكير خارج العلبة واقوالب القائمة. الأمر الذي لم يساعد الأسرى على الخروج عما طورته هذه التناقضات في أوساطهم من آليات دفاع نفسي للخروج من حالة التنافر الشديد ما بين الواقع والوعي الذي شكلوه بشأن هذا الواقع، وذلك لخلق توازن موهوم يقود لإنكاره. ومن هذه الآليات؛ الأمراض، الكذب، التهويل، تضخيم الذات أو الواقع. ويتبدى ذلك في التقارير والمعلومات المقدمة للجان حقوق الإنسان وفي التهويل الإعلامي مما يشوه صورة هؤلاء المناضلين، ويحدّ من قدرتهم على مواجهة واقعهم، ويعطل إمكانية النهوض بقضاياهم من قبل اللجان الحقوقية والإنسانية. لقد بدأت تجليات هذه السياسة الإسرائيلية في السجون وآثارها تظهر في حياة الأسرى ونظامهم وعلاقاتهم الداخلية في العامين الأخيرين على نحو واضح وخطير. والخطورة بالدرجة الأولى تتمثل بتنكر غالبية الأسرى لهذا التشخيص آنف الذكر، وذلك لأسباب نفسية ومعنوية حيث يفضلون تحت وطأة الهمّ الخاص، ولدواعي عملية مواصلة الحياة لئلا يضطروا الوقوف أمام استحقاقاته.
إن تنكر الأسرى للواقع وتفضيلهم التواطؤ مع سهولة الحياة القائمة هو بحد ذاته نتيجة من نتائج سياسة الهندسة البشرية التي يتعرضون لها في إطار خطة صهر الوعي، لكن خطورة ما سنفصله هنا من محتوى قيمي جديد في حياة الأسرى، هو أننا نتحدث عن طليعة الشعب الفلسطيني ورأس حربته المقاومة. وعندما تستهدف القيم الجامعة لهذا القطاع من الشعب الفلسطيني، بترويضه واستدخال قيم ما قبل وطنية على قاموسه ومنطق تفكيره، إنما تستهدف مقولة الشعب التي يشكل الأسرى بنضالهم طليعة حماتها مما يعني بأنه سيكون لهذه السياسة الإسرائيلية الآثار المدمرة على مجمل نضال الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
لقد تعاطت إدارة السجون مع اللجان الوطنية، واللجان القيادية المنتخبة أو ممثلي الأقسام كما سبق وذكرنا، لكنها حولت هذه الأطر إلى أطر ما قبل وطنية بمحتواها. حيث أصبح تدخلها تفصيليًا عبر إجراء تنقلات ممنهجة بين السجون. فمثلاً وبهدف تعزيز المرشح "س" من منطقة جنين، قامت بنقل أسرى جنين إلى قسمه لضمان انتخابه حيث يمثل القسم الواحد وحدة انتخابية واحدة، بحيث أصبح أعضاء الفصيل المعين في قسم كذا ينتمون جغرافيًا بغالبيتهم لجنين. مما حول مفتاح العلاقات الداخلية لكل فصيل بأن لا تحكمه اللوائح الداخلية وإنما الإنتماءات الأولية كالبلديات ورابطة الدم والجغرافيا، بل أصبحت العلاقات بين الفصائل لا تخضع للخلافات السياسية والفوارق الأيديولوجية، وإنما تجد اليوم أفرادا من حماس وفتح من مدينة نابلس مثلاً يقفون في وجه شباب من فتح وحماس من جنين . فالمفتاح الناظم لمجمل العلاقات داخل السجن هو مفتاح الجغرافيا والبلديات. لدرجة أن الفصائل لم تعد هي الجهة التي توفر الأمن والحياة الكريمة وإنما أبناء البلد. حيث أصبح لكل منطقة أو مدينة مرجع (مختار) يبسط الفصيل من خلاله نفوذه على أفراد المنطقة المعينة.
إن هذه القيم ولغاية أواسط التسعينيات لم تكن قائمة في السجون، حيث اعتبرت في الماضي من قيم العيب المحاربة، والتي لا مكان لها بين الوطنيين لدرجة أن من كان يحاول الترويج لها يحاصر وينبذ اجتماعيًا، لكنها، وعندما تسلح شخوص وحاملو هذه القيم بالسلطة، أصبحت هي القيم السائدة وقيم المرحلة، ومن يحاول التفكير والعمل خارجها يحارب ويقصى كمتمرد على "السلطة". باستخدام السلطة الشرعية الوحيدة، وهي سلطة الفصيل المؤسسة على مفتاح الجغرافيا والبلديات.
إن هذه السلطة تستمد قوتها من جهة من إدارة السجون عبر التنقلات التي تجريها للأسرى بين السجون بما ينسجم ومصلحة شخوص هذه السلطة ويعززها. إن كان بتجميع المقربين منها أو توزيع الخصوم. بل إن بعض ممثلي الأقسام تحولوا إلى "كابو" فعلاً، ومن جهة أخرى، تستمدها من السلطة الفلسطينية التي تمنح ممثلي هذه القيم من الأسرى قوة حيث يشكلون عنق الزجاجة التي عبرها يصل الدعم المالي وتحل الإشكالات الإجتماعية لأسرة الأسير أو يتابع أمر راتبه الشهري. وهكذا، وبهذا المعنى تعزز السلطة الفلسطينية من حيث تدري أو لا تدري مشروع فكفكة القيم الجامعة للأسرى.
لقد حافظت إدارة السجون أيضًا على ما كان قائمًا من تقسيم سكني لغرف خاصة بكل فصيل داخل القسم الواحد من أقسام السجن. لكن التقسيم الداخلي لأعضاء الفصيل الواحد موزعون في غالبية السجون على الغرف وفقًا للإنتماءات الجغرافية، أو وفق مخيم مدينة، الأمر الذي يعاكس تمامًا ما كان قائمًا في الماضي في أوساط الأسرى. لقد حاربت الفصائل الوطنية في الأعوام ما قبل أوسلو تحديدًا مثل هذه المظاهر ووصل الأمر منع الأشقاء السكن في وحدة – غرفة واحدة. إدراكًا منها لأهمية تعزيز الروابط الوطنية والعلاقات التنظيمية المؤسسة على قواعد سياسية طوعية بعيدًا عن رابطة الدم أو البلديات. وقد واجهت الفصائل في الماضي إشكاليات جدية جراء موقفها المبدئي الذي كان يتسم بالتطرف أحيانًا. لكنها اعتبرت الرضوخ لهذه الروابط خطـًا أحمر يعرض الفصيل وقيمه الوطنية للاندثار. لقد كان التنويع الجغرافي والتعددية عمومًا مبدأ، أما البلديات والشلليات فهي سلوك محرم. وقد أدرج هذا التحريم في اللوائح الداخلية لكل فصيل، لكننا اليوم وانسجامًا وهذا الحال البائس الذي وصفناه، نجد أن التوزيع المالي القادم من السلطة الفلسطينية يتناغم كليًا مع الجغرافيا كمفتاح، وتشكل هذه الجغرافيا أساس للتكافل الإجتماعي والعلاقات المادية المتبادلة بين الأسرى، بل حتى طابور الرياضة الصباحية التاريخي أصبح مقسما، وتجد كل منطقة تمارس رياضتها وهرولتها رغم ضيق المكان بمعزل عن المناطق الأخرى.
نعم نحن ندرك بأن هذه التفاصيل قد لا تعني شيء بالنسبة للناس خارج الأسوار، لكن من لا يدرك أهمية هذه التفاصيل وتداعياتها النفسية والتربوية على الفرد في حياة مؤسسة مغلقة كالسجون، والتي تمارس على نحو يومي ومكثف لسنوات طويلة على شباب غالبيتهم في العشرينات من عمرهم، لا يمكنه أن يفهم المشروع الإسرائيلي في إعادة صياغة وعي وترويض هؤلاء المناضلين في أدق التفاصيل. إن السجون الإسرائيلية اليوم هي بمثابة مؤسسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله. بل هي أضخم مؤسسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين.
لا يعني هذا الحال كما نصوره هنا بأننا أمام قبول واسترخاء من قبل الأسرى لكننا أيضًا لسنا أمام مواجهة ورفض، وذلك لعدم إدراك الحالة وتشخيصها. بل هناك في أوساط من يرغبون بالتغيير تخبط وشعور عام بالمرارة من عدم قدرتهم على تفسير حالة التروي القيمي والمعنوي رغم معقولية الواقع المادي. وهناك ضغط نفسي وعصبي لدى قطاعات واسعة من الأسرى الجدد مممن يعيشون تنافرًا بين ما كانوا يحملونه من تصور مثالي أو على الأقل إيجابي عن الأسرى والنضال داخل الأسر، وبين ما يواجهونه في الواقع من حقيقة تتناقض وهذه الصورة. الأمر الذي يقودهم لتفريغ هذا الضغط باستخدام العنف تجاه الآخر. والآخر في الواقع الجديد للسجون ليس السجان غير المتواجد ماديًا ومباشرة أمامه، وإنما الآخر تجسد بابن المنطقة الجغرافية الأخرى.. مدينة.. أو مخيم.
بعد أن فقدت الآليات والضوابط الفصائلية قيمتها في حسم الخلافات، أصبح استخدام العنف والضرب بأدوات حادة ظاهرة طالت سجون عديدة. وقد أصبح، بعد أن كان محرمًا في حياة الأسرى لسنوات طويلة، ويؤدي بمستخدميه والملوحين به إلى الفصل والطرد من صفوف الفصيل المعني، أداة حسم للخلافات و "ناظما" للعلاقات الداخلية.
إن العنف الذي أصبح أداة حسم وناظما للعلاقات أسهم في إعادة إنتاج قيم الإنتماءات الأولية من جديد وعزز البلديات والإنتماءات الجغرافية. واصبح الأسرى حتى أولئك الذين يريدون تغيير هذا الحال، أسرى هذه الدائرة التي تغذي نفسها. بعد أن أصبحت البلديات هي الجهة الوحيدة القادرة على توفير الأمن والحماية في ظل هذا، وتقدم للأسير يقينًا على شكل حماية وتفسيرها وقيمها هما الوحيدان اللذان في متناول يد الأسير وعقله.
إن التناقض والضغط النفسي الذي يعيشه الأسير لا يقوده دومًا وبالضرورة اللجوء للعنف كوسيلة تنفيس، فهناك قطاعات من الأسرى لجأت إلى العزوف السياسي والإنطواء على اهتمامات بعيدة عما قد يؤجج التناقضات والتوترات النفسية داخلها. فقد لوحظ تزايد نسبة الأسرى المهتمين على نحو متطرف بلياقتهم الجسدية فيقضون وقتهم ويكرسون جلّ اهتمامهم بممارسة الرياضة، وفي المقابل هناك فئة مهتمة بمتابعة برامج التلفاز التي في أحسن الأحوال برامج بعيدة كل البعد عن السياسة والهمّ الوطني، وفي المجمل لم يعد الأسير الفلسطيني ذاك الأسير القارئ والمنتج أدبًا داخل السجون كما كان في الماضي. ولم تعد الجلسات والحلقات الدراسية والنقاشات الفكرية والأيديولوجية هي سمة هذه الطليعة، بل إن هذه الطليعة في غالبيتها الساحقة لم تعد تقرأ وتبحث عن إجابات للأسئلة والإشكالات الوطنية التي تجابه شعبنا، ولا يوجد إلا قلة قليلة ما زالت تحاول النفخ على الجمرات. صحيح أن هناك أعدادا متزايدة من الملتحقين بالدراسة الجامعية (الجامعة المفتوحة في إسرائيل)، إلا أن الدافع والإهتمام يندرج في الغالب في إطار الإهتمام بقيم الذات ومستقبلها بعد التحرر ولا ينطلق هذا التوجه من قيم المجموع والهمّ الوطني. إنه شكل من أشكال الهروب من الواقع، وإن كان هروبًا محبذًا قياساً بالأشكال الأخرى. لكن المعرفة والدراسة الأكاديمية المكتسبة قلما يوظفها هؤلاء الأسرى الدراسية في خدمة المجموع، خصوصًا عندما يرافقها استنكاف وابتعاد عن قضايا الفصيل وهموم الحركة الأسيرة.
وكجزء من الإستفراد بعقل ووعي الأسرى، ولمنع أي إمكانية لتدفق المعلومات التي من شأنها أن تشوش عملية صهر الوعي، فقد حددت إدارة السجون في الأعوام الأخيرة طبيعة الكتب التي يسمح للأسير إدخالها عبر الأهل بكتب الدين والعبادة أو بعض الروايات، أما الأبحاث العلمية والدراسات السياسية والإجتماعية فيمنع إدخالها للسجن تحت حجة "مواد تحريضية". وعلى كل حال فإن الكتب التي تقرأ بكثافة في الآونة الأخيرة هي كتب قراءة الطالع وتفسير الأحلام أو كتب اختبار المعلومات (بنك المعلومات). الأمر الذي إن دلّ على شيء فهو يدلّ على حجم التشوّه الذي كان من نصيب ثقافة الحركة الأسيرة. هذه الطليعة الفلسطينية التي من المفروض أن تكون أكثر الفئات تسييسًا ووعيًا.
وقد استخدمت إدارة السجون للتشويش على وعي وثقافة الأسرى، منع إدخال الصحف العربية بما فيها الصحف الصادرة في الداخل48، وخصوصًا الصحف الحزبية والسياسية "كفصل المقال" و "الإتحاد" و "صوت الحق" باستثناء صحيفة القدس التي تصل الأسرى بعد صدورها بأسابيع. وفي المقابل يتاح للأسرى قراءة الصحف العبرية التي تصل يوميًا. أما محطات الراديو فيسمح بالتقاط المحطات الإسرائيلية فقط، بعد أن حددت أيضاً التقاط الفضائيات العربية، بعد شطب قناة "الجزيرة". وأبقت المحطات التي تعتبرها ملتزمة بخط "الإعتدال العربي".
لم تكتف إدارة السجون بمثل هذا الحصار الثقافي لمنع ما قد يتسلل من خارج الأسوار. وإنما حرصت أن لا يتسلل أجزاء من الصورة الى الأسرى من القسم المجاور لهم داخل نفس السجن. لئلا يتمكنوا من جمعها في إطار مشهد واحد يقودهم إلى فهم وإدراك الصورة بشموليتها وإدراك الظرف والمرحلة التي يعيشونها. فالأقسام منعزلة عن بعضها البعض وتمثل سجنًا مستقلاً وإدارة السجون تحرص على إبقاء هذا الفصل فصلاً تامًا.
إن توزيع الأسرى الفلسطينيين على السجون وفق تقسيمات مناطق كبرى.. جنوب.. وسط.. شمال وتوزيعهم في كل سجن، كما سبق وذكرنا، على الأقسام وفق تقسيمات صغرى؛ مدينة.. قرية.. مخيم، وإحكام الفصل بقدر الإمكان بين المناطق عن بعضها، وتعزيز فصل الاقسام داخل السجن الواحد.. إن هذا العزل الممنهج يفيد تقليص نقل المعلومات والخبرات بين الأسرى، لكنه وبشكل أساسي يحول ضباط الإستخبارات ليصبحوا الجهة الوحيدة المزودة للأخبار والقناة التي يستقي منها الأسرى معلوماتهم. الأمر الذي يمنح هؤلاء الضباط أداة سيطرة تتمثل في بث الشائعات وتأجيج التناقضات وتغذية الخلافات بين أقسام السجن، ودائمًا على أساس مناطقي وجغرافي مخيم.. مدينة مثلاً، إن كان بين أسرى نابلس ومخيم بلاطة أو أسرى جنين ومخيم جنين. دافعين بهذا لتعزيز وتغذية الإنتماءات وفقًا لهذه الصيغ بحيث يستبدل الولاء للوطن بالولاء للمنطقة حتى تحل الجغرافيا كانتماء محل الهوية الوطنية الجامعة. إن الفصل على نحو محكم بين الأقسام مضافًا له الجوع الطبيعي والتعطش الدائم للمعلومات لدى الأسرى الذين يسعون دومًا في حالة العزلة إلى تحديد مكانهم وزمانهمه والظرف المحيط بهم يحول قوة السجان إلى قوة مضاعفة يستخدمها في تشكيل الوعي لدى الأسرى.
لقد أضاف الحسم العسكري الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزة عناصر تعقيدات جديدة وتشابكات جعلت مهمة إعادة صياغة الوعي في السجون، بل وخارجها، مهمة ممكنة ومشروعًا قبل للتطبيق. لقد وفر هذا الحدث فرصة كبيرة ومادة تحريض دسمة لضباط الإستخبارات في السجون لدسّ الأخبار والمعلومات المؤججة للصراعات والمفككة لأي مفهوم وطني أو قيمة من القيم الجامعة للأسرى بصفتهم مناضلين.
إن أبرز تجليات هذا الحدث في حياة الأسرى هو حالات الإعتداء المادي والمعنوي المتبادلة بين أسرى فريقي الخلاف في غزة والتي بقين لحسن الحظ حالات محدودة، وبعضها مفتعل ومقصود من قبل ضباط الإستخبارات. إلا أنها كانت أحداث كافية لتضخيمها وتضخيم البعد الأمني ليتم استغلالها لتطبيق قرار الفصل بين أسرى القوى الإسلامية وأسرى حركة فتح. تحديدًا في سجون المنطقة الجنوبية الأمر الذي نظـَّرت له وتناغمت معه قلة من النفسيات المهزوزة. وفي المقابل ومن "ثمار" هذه السياسة الإسرائيلية، بل وأحد أبرز تجلياتها التي بينت حجم السيطرة على السجون وحجم "الإنضباط الذاتي" للأسرى الذي لم نره أثناء الخلافات الداخلية وأحداث الحسم العسكري في غزة، هو الصمت الذي رافق الحرب على غزة، الصمت المطبق والشامل لكل السجون. حيث جلس الأسرى أثناء هذه الحرب أمام شاشات التلفاز يراقبون الفضائيات العربية التي أغرقت بالدم (في هذه الأثناء كان التقاط الجزيرة مسموحًا به) وتصرفوا كأقل من أي مواطن عربي أو متضامن أجنبي مع الشعب الفلسطيني لم يحرك الأسرى ساكنًا، ولم يقدموا على أي شكل احتجاجي أو تضامني يمكن ذكره. بل تجرأت إدارة السجون وطلبت بوقاحة أن لا تذكر الأحداث في خطب الجمعة لئلا يؤدي الأمر إلى "تحريض" الأسرى.
إن هذا الصمت صدر عن الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة التي كانت وعلى الدوام وعلى مدار تاريخها تُقدم على خطوات احتجاجية وتضامنية مع أي نضال وحركة تحرر في العالم. لقد كان الأسرى يبدعون في الماضي بأشكال إحتجاجهم لمجرد أن هناك مناضلين أكراد مضربون عن الطعام في السجون التركية، أو تضامنًا مع منديلا وأعضاء المؤتمر الوطني الإفريقي في سجون جنوب أفريقيا العنصرية. لكنهمه وقفوا عاجزين عن إصدار موقف أو اتخاذ خطوة احتجاجية أو رمزية واحدة على مدار ايام الحرب على غزة.
إن حالة العجز هذه لا تعرض هنا للتشهير بالمناضلين ولا حتى للمعاتبة. ليس الموضوع كذلك ولا يعالج بهذا السياق، وإنما جاء لتأكيد على حجم السيطرة الإسرائيلية موضوعيًا على الأسرى. من خلال جملة السياسات والإجراءات والضوابط التي تشكل عملية صهر الوعي، والتي كل واحدة منها منفردة لا تعني الكثير، لكنها تشكل في المجمل أكثر بكثير من حاصل مجموع مركباتها وتشكل مصانع تسمى سجون مهمتها صهر الوعي لجيل بكامله.
إن الواقع في السجون بكل تعقيداته وحجم الإستهداف والجهد العلمي الحديث المبذول به مضافًا إليه التعقيدات والأزمات السياسية على الساحة الفلسطينية ما كان ليتيح للأسرى الخروج من حالة العجز بقواهم الذاتية وأن يتصرفوا بغير ما تصرفوا به أثناء الحرب على غزة. فمهمة الخروج من هذه الأزمة ليست من وجهة نظرنا مهمة الأسرى لوحدهم، بل هي مهمة القوى السياسية ولجان الأسرى وحقوق الإنسان بالدرجة الأولى.
وعلى كل حال، لا تتمثل الخطورة بما حدث في تلك اللحظة أو ذاك الموقف الذي لم يتخذ أثناء الحرب على غزة، وإنما الخطورة هي في التناقض والصراع الداخلي الذي يعيشه كل أسير، حيث جاءت الحرب وكثفته وزادت من حدته. الصراع ما بين ما يتصوره الأسير حول نفسه ونضاله مع ما لا يجد له تفسيرًا في غياب هذا التصور في الممارسة العملية. لا أحد الآن قادرا على تقدير حجم الأضرار النفسية والمعنوية جراء هذا التناقض، أو تقدير حجم التقدير الذاتي المتدني للأسير وتداعيات ذلك على النضال الوطني في المستقبل. لكننا قادرون اليوم أن نشعر بحجم المعاناة بفعل هذا النوع من التعذيب النفسي.
لم يكن من سبيل الصدفة أن تقدم إدارة السجون مباشرة بعد الحرب على غزة على رفع العلم الإسرائيلي في كل ساحة من ساحات السجون، الخطوة التي لا نعتقد بأنها كانت ستـُقدم عليها في ظروف اخرى، لو لم تكن تدرك حجم العجز والتشوّه الذي أصاب الأسرى كما أصاب مجمل قواه وفصائله الوطنية والإسلامية.
إننا وعندما نتحدث عن التعذيب وضرورة أن يُقدم له تعريف جديد، فإنما يجب أن يشمل هذه السياسات وهذه النظم غير الحسيّة وغير المباشرة، التي تهدف للتدخل في تفكير الأفراد في عملية مسح دماغي زاحف ومتدرج وممنهج، وتحاول أن تهندس الجماعة السياسية وتدخل في العمليات الإجتماعية وتسيطر عليها وعلى نتائجها.
إن طموح مدير السجون السابق يعقوف جنوت عبر عن هذا الهدف وهذه الرغبة في السيطرة، ففي حديث له أدلى به في إحدى ساحات سجن جلبوع بعد تسلم وزير الأمن الداخلي جدعون عزرا الوزارة عام 2006 موجهًا حديثه للوزير وعلى مسمع من الأسرى:
"إطمئن... عليك أن تكون واثقًا بأنني سأجعلهم (الأسرى) يرفعون العلم الإسرائيلي وينشدون التكفا".





2010-01-04 13:02:58 | 1855 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية