التصنيفات » دراسات

إدارة "إسرائيل" لأزمات الرأي العام الدولي




نموذج "أسطول الحرية" والرأي العام العربي

11 حزيران 2010



– فهـرس المحتـويـات –

1. مقدمة ....................................................................................... 2
2. الإنقسامات الفلسطينية ...................................................................... 3
3. الدول العربية والفلسطينيون ................................................................. 4
4.  يد "إسرائيل" الطليقة على المدى القصير والتحدي على المدى البعيد  ....................... 5


تقديم
    تُعتبر هذه المقالة من أهم ما يمكن أن يُقرأ من خلاله القارئ كيف يتصرف العدو الصهيوني في مواجهة أي أزمة دولية كأزمة "أسطول الحرية"، وأن يستقرئ إلى أي مدى قد يكون للضغط الدولي تأثيراً على قرار العدو تجاه القضية الفلسطينية. ففي هذه المقالة يسلّط رئيس مركز التنبؤات الإستخبارية، جورج فريدمان، الضوء على الإختلافات (قومياً وإيديولوجياً) التي تُعاني منها الحركة الإسلامية مع الأطراف المناوئة لها وعلى الأخص حركة "فتح" ومصر، ليصل إلى حد القول إن "فتح" ستسعى في مرحلة معيّنة لتقويض المكاسب السياسية التي أهداها الأسطول التركي الصغير لحماس، وبالتالي ليس على الكيان أن يقلق. ويخلص الخبير الإستراتيجي إلى القول أنه نتيجة لذلك يتبيّن أن احتمال حدوث تحوّل في سلوك القوى المتواجدة خارج المنطقة، عدا المواقف الكلامية، أمر مستبعد. فالدول العربية المجاورة "لإسرائيل" عاجزة على كافة المستويات عن تشكيل ولو تحالف جزئي مناهض "لإسرائيل"، و"إسرائيل" غير مرغمة على مغايرة أفعالها مع أخذ النتائج الإقليمية في الاعتبار، وهو ما يفسر استعداد الدولة العبرية لمواجهة إدانة دولية واسعة.
مركز دراسات وتحليل المعلومات الصحفية

بطـاقـة التـعـريـف بالـتـرجـمـة
العنوان الأصلي محدودية تأثير الرأي العام: العرب و"الإسرائيليون" والتوازن الاستراتيجي
المؤلف جورج فريدمان
جهة الإصدار  مركز التنبؤات الإستخبارية - واشنطن
تاريخ الإصدار  8 حزيران 2010
عدد الصفحات  7 صفحات
جهة إصدار الترجمة  مركز دراسات وتحليل المعلومات الصحفية
تاريخ إصدار الترجمة 11 حزيران 2010


محدودية تأثير الرأي العام:
العرب و"الإسرائيليون" والتوازن الاستراتيجي

1. مقدمة
لا تزال الأحداث التي وقعت في الأسبوع الفائت قبالة السواحل الإسرائيلية تتفاعل. ومع أنه لم يتم قطع العلاقات التركية الإسرائيلية بعيد وقوع تلك الأحداث، إلا أنها وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ إقامة دولة إسرائيل. أضف إلى ذلك أن العلاقات الأميركية الإسرائيلية يشوبها التوتر، والعدائيةَ الأوروبية لإسرائيل لا تزال في تصاعد مستمرّ. والمسألة المطروحة الآن هي معرفة إن كان سيترتب على تلك الأحداث نتائج جوهرية. وبعبارة أخرى، السؤال المطروح هو هل سيجري استغلال تلك الأحداث خارج ميدان الرأي العام وكيف سيتم ذلك؟
أهم تهديد يواجه إسرائيل سيكون عسكرياً بالتأكيد، لكنّ الدول لا تغيّر اتجاهها في ظل غياب أخطار مباشرة تهدد مصالحها. على أن لجوء القوى الواقعة خارج المنطقة إلى الخيار العسكري في تعاملها مع إسرائيل أمر مستبعد، حتى إن فَرض عقوبات اقتصادية أو سياسية عميقة الأثر أمر مستبعد أيضاً. فإلى جانب حقيقة أنه لا رغبة لدى القوى الخارجية في التدخل، يرجع هذا الوضع إلى حقيقة أنه حتى إقدام الدول الداخلية على القيام بأعمال ذات شأن أمر مستبعد أيضاً.
عاشت الأجيال السابقة من الإسرائيليين تحت تهديد التعرّض لهزيمة عسكرية تقليدية على يد الدول المجاورة. ومع أن الأجيال الأخيرة لا تزال تواجه تهديدات، لكنها ليست من النوع التقليدي. ذلك "إسرائيل" تعمل في بيئة إستراتيجية ملائمة تصون من خلالها ميادين الرأي العام والعلاقات الدبلوماسية ومسألة الأسلحة النووية الإيرانية. لكن هذه القضايا لا تشكل على أهميتها تهديداً مباشراً بمستوى تكبّد هزيمة في حرب تقليدية، وهو الشبح الذي هيمن في العقود السابقة على إسرائيل. من أسباب ذلك أن هناك انقسامات عميقة بين أعداء إسرائيل الإقليميين، وأن علاقاتهم بإسرائيل متباينة إلى حدّ أنه لا يوجد تحالف فاعل يواجه إسرائيل، ومن المستبعد أن يتم تشكيل مثل هذا التحالف عما قريب.
بناءً على ما تقدم، يتبيّن أن احتمال حدوث تحوّل في سلوك القوى المتواجدة خارج المنطقة، عدا المواقف الكلامية، أمر مستبعد. فالدول العربية المجاورة لإسرائيل عاجزة على كافة المستويات عن تشكيل ولو تحالف جزئي مناهض لإسرائيل. وإسرائيل غير مرغمة على مغايرة أفعالها مع أخذ النتائج الإقليمية في عين الاعتبار، وهو ما يفسر استعداد إسرائيل لمواجهة إدانة دولية واسعة.
 

2. الإنقسامات الفلسطينية
لكي نفهم مدى عمق انقسامات العرب، نبدأ بمعاينة الانقسامات التي يعاني منها الفلسطينيون أنفسهم. ففي جانب هناك حركة "فتح" التي تهيمن على الضفة الغربية، وفي الجانب الآخر هناك حركة حماس التي تهيمن على قطاع غزة. ولو وضعنا الانقسام الجغرافي للأراضي الفلسطينية جانباً، وهو الذي يجعل الفلسطينيين يتصرفون كما لو كانوا يشكلون دولتين منفصلتين ومتخاصمتين، هناك اختلافات إيديولوجية عميقة بين الحركتين.
إن حركة فتح وليدة الحركة القومية العربية العلمانية الاشتراكية والعسكرية التي أنشأها الرئيس المصري جمال عبد الناصر في الخمسينيات من القرن الماضي. تأسست حركة "فتح" في الستينيات من ذلك القرن وأقامت علاقة وثيقة مع الاتحاد السوفياتي. كانت الفصيل المهيمن، إن لم يكن الوحيد، في منظمة التحرير الفلسطينية. كما شكّلت منظمة التحرير مظلةً جمعت عناصر الحركة الفلسطينية التي تعاني من انقسامات شديدة في ما بينها. كما هيمن ياسر عرفات على "فتح" ردحاً طويلاً، وبوفاته أصبحت "فتح" بلا قائد كاريزمي، وإن كانت جهازاً بيروقراطياً قوياً مفرَّغاً على نحو متزايد من أية إيديولوجيا أو استراتيجية متماسكة.
ومن ناحية أخرى، خرجت حماس من رحم الحركة الإسلامية. وهي مدفوعة بحوافز دينية غريبة عن "فتح" ومناوئة لها. فتحرير فلسطين في نظر حماس ليس مستلزماً وطنياً وحسب، بل إنه واجب ديني أيضاً. كما أن حماس تعادي مع تعتبره الفساد المالي الذي زرع عرفاتُ بذوره في الحركة الفلسطينية، بالإضافة إلى معاداتها للتوجهات العلمانية لحركة "فتح".
تخوض حركتا "فتح" وحماس منافسة لن تنتهي سوى بقضاء إحداهما على الحركة الأخرى. وبالنظر إلى عجزهما عن تشكيل تحالف وإلى رغباتهما المتبادلة في إفشال الطرف الآخر، فإن انتصار إحدى الحركتين يعني هزيمة الحركة الأخرى. وهذا يعني أنه أياً تكن التصريحات العلنية التي تطلقها "فتح"، فإن التركيز الدولي الحالي على غزة وعلى حماس يؤدي إلى إضعاف "فتح". وهذا يعني أن "فتح" ستسعى في مرحلة معيّنة لتقويض المكاسب السياسية التي أهداها الأسطول التركي الصغير لحماس.
تتحول الانقسامات الجغرافية والإيديولوجية والتاريخية العميقة التي يعاني منها الفلسطينيون إلى أحداث عنف بين الحين والآخر، علماً بأنه طالما عانت حركتهم من الانقسامات وطالما كانت هذه الانقسامات نقطة ضعفهم الوحيدة والأشد خطورة. وعلى الرغم من أن النزعات الحزبية تمزّق الحركات الثورية دائماً، بيد أن الانقسامات الفلسطينية عميقة إلى حدّ أنها قضت على التهديد الذي يشكله الفلسطينيون للإسرائيليين حتى بدون تلاعب من جانب إسرائيل. وإذا لجأت إسرائيل إلى التلاعب، يمكنها التحريش بين فتح حماس.
 

3. الدول العربية والفلسطينيون
انعكس الانقسام الحاصل داخل الصف الفلسطيني في الآراء المتباعدة لما كان يسمى دولَ المواجهة المحيطة بإسرائيل، أي مصر والأردن وسوريا، فعلى سبيل المثال، تُناصب مصرُ حركةَ حماس العداء جهاراً، وهي حركة دينية في بحر من الدول العربية العلمانية بالضرورة. ترجع جذور حماس إلى حركة الإخوان المسلمين، كبرى الحركات الإسلامية بمصر والتي طالما اعتبرتها الدولةُ المصرية التهديد المحلي الرئيسي لنظام الرئيس المصري حسني مبارك، الذي اتخذ إجراءات قمعية في حقّ الإسلاميين المصريين، وهو يرى في إيديولوجيا حماس تهديداً له لإمكانية انتشارها إلى داخل مصر. لهذا السبب ولجملة من الأسباب الأخرى، فرضت مصرُ حصارها الخاص على غزة. كما أن مصر أقرب بكثير إلى "فتح" التي تنبع إيديولوجيتها من العلمانية المصرية وهو السبب الذي يجعل حماس عديمة الثقة بالقاهرة إلى حدّ بعيد.
ينظر الأردن إلى "فتح" بارتياب شديد. ففي سنة 1970، حاول عرفات تنظيم ثورة على الحكم الملكي الهاشمي في الأردن، حصدت المجازر التي أعقبت ذلك، والتي يشار إليها بأيلول الأسود، أرواح نحو من 10000 فلسطيني. لم تصفح "فتحُ" عن الأردن في الحقيقة لما وقع في أيلول الأسود، والأردنيون لا يثقون بـ"فتح" منذ ذلك الحين. كما أن فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية تُؤرق بال النظام الهاشمي باعتبار أن أغلب سكان الأردن فلسطينيون. في هذه الأثناء، تثير حماسُ بإيديولوجيتها الإسلامية قلقَ الأردن الذي يعاني من مشكلات مع الإخوان المسلمين. لذلك، لو وضعنا المواقف الكلامية جانباً، يشعر الأردنيون بالانزعاج من الفلسطينيين في أحسن الأحوال. وعلى الرغم من سنوات العداء بين إسرائيل والفلسطينيين، أبرم الأردن (وكذلك مصر) مع إسرائيل معاهدة سلام لا تزال سارية المفعول.
إن سوريا أكثر اهتماماً بلبنان منها بالفلسطينيين. ومنشأ رعايتها (ورعاية إيران) لـ"حزب الله" رغبتها في الهيمنة على لبنان أكثر منه حقيقة أن "حزب الله" قوة مقاوِمة لإسرائيل. ولا ريب في أنه ما من مرّة اندلع فيها قتال بين "حزب الله" وإسرائيل وإلاّ وأصاب السوريين توتر شديد وازدادت علاقتهم بإيران توتراً. ومع أن "حزب الله" تنظيم معادٍ لإسرائيل، فهو ليس حركة فلسطينية، بل هو حركة شيعية لبنانية. ومن ناحية أخرى، ينتمي أغلب الفلسطينيين إلى الطائفة السنّية، وبرغم تقاسمهم مع "حزب الله" هدفاً مشتركاً هو القضاء على إسرائيل، من غير الواضح إن كان الحزب يريد النظام نفسه الذي تريده حماس أو "فتح" في فلسطين. لذلك تمارس سوريا لعبة جانبية مع حركة معادية لإسرائيل وليست حركة فلسطينية في ما تقيم علاقات مع كِلا فصيلي الحركة الفلسطينية.
لو ابتعدنا عن دول المواجهة، يتذكر السعوديون والأنظمة الأخرى في شبه الجزيرة العربية التهديد الذي كان عبد الناصر ومنظمة التحرير يشكلانه لنظمهم. إنها نظم لا تصفح بسهولة، ومساندتها لفتح تنبع من إدراك تامّ لتأثير الفلسطينيين المُخلّ بالاستقرار. ومع أنه يتملّك الإيرانيين رغبة عارمة في امتلاك نفوذ في أوساط الفلسطينيين، إلا أن إيران تبعد أكثر من ألف ميل عن المنطقة. ومع ذلك، تصل الأسلحة الإيرانية إلى الفلسطينيين أحياناً. لكنّ فتح لا تثق بالإيرانيين، وحماس وإن كانت حركة دينية، فهي سنّية في حين أن إيران شيعية، لذلك ربما تتعاون حماس مع إيران في بعض القضايا التكتيكية، لكنّ الطرفين لا يتقاسمان الرؤية ذاتها.
 

4. يد "إسرائيل" الطليقة على المدى القصير والتحدي على المدى البعيد
بالنظر إلى هذا المناخ، من الصعوبة بمكان ترجمة العداء الشديد للسياسات الإسرائيلية في أوروبا وفي المناطق الأخرى إلى أدوات ضغط ذات شأن على إسرائيل. وفي ظل هذه الظروف، يعتقد الإسرائيليون أن عواقب أفعالهم التي تحرّض العرب وباقي أنحاء العالم على معاداة إسرائيل أقل خطراً من فقدان السيطرة على غزة. فكلما زاد استقلال غزة، قوي التهديد الذي تشكله لإسرائيل. وقمعُ غزة آمنُ بكثير، وهو أمر تدعمه "فتح" في نهاية المطاف، وتشارك فيه مصر، ويريح الأردن ولا تبالي به سوريا.
تبني الدولُ تصرفاتها على حساب المخاطر والمكاسب. والوضع الذي يعيشه الفلسطينيون والعرب يعود على الحزم الإسرائيلي بالمكاسب ويعود بالقليل منها في حال التزام سياسات حذرة. كما أن الإسرائيليين لا يعتقدون أن العداء العالمي لإسرائيل سيُترجَم إلى تهديد ذي شأن لأن الواقع العربي يُبطله. لذلك، لا يشكل تنفيسُ الضغط عن حماس خياراً منطقياً بالنسبة إلى الإسرائيليين. فالقيام بذلك سينفّر "فتح" ومصر على الأرجح أكثر مما سيرضي السويديين مثلاً. ولمّا كانت إسرائيل أكثر اهتماماً بمصر وبـ"فتح" منها بالسويديين، على سبيل المثال، فهي تصرّ على النهج الذي كانت عليه.
هناك نقطة وحيدة تلخّص قصة إسرائيل وقصة مساندي فرض الحصار على غزة: لم تشكل ولو طائرة مصرية واحدة تهديداً للسفن الإسرائيلية، كما لم تقترب ولو سفينة سورية واحدة من نقطة الاعتراض على الأسطول التركي. وفي وسع الإسرائيليين الاطمئنان إلى عدم وجود من يتحداهم في البحر وفي الجوّ. وهذا يؤكد على حقيقة أن الدول العربية ما عادت تشكل قوة عسكرية يمكن أن تتحدى الإسرائيليين، كما أنها غير مهتمة بحيازة مثل هذه القوة. وفي حين شكلت القواتُ المصرية والسورية خطراً جسيماً على القوات الإسرائيلية في سنة 1973، لم يعد لهذا التهديد وجود الآن. وباتت إسرائيل تملك يداً طليقة في المنطقة في الميدان العسكري، وهي ليست في حاجة إلى أن تأخذ في الحسبان رداً عسكرياً. ومع أن الخطر الذي تشكله الانتفاضة ومنفّذو العمليات الانتحارية والصواريخ التي تُطلَق من لبنان ومن غزّة ومقاتلو حزب الله خطر حقيقي، لكنه لا يشكل تهديداً لوجود إسرائيل على غرار التهديد الذي شكلته مصر وسوريا ذات مرّة (والإسرائيليون يرون أن أعمالاً مثل تضييق الخناق على غزة تُضعف خطر الانتفاضة ومنفّذي الهجمات الانتحارية والهجمات الصاروخية). فالجهات من غير الدول تفتقر ببساطة إلى القوة اللازمة للوصول إلى هذه العتبة. وعندما نبحث عن الأسباب التي تقف وراء الأفعال الإسرائيلية، يتبين أن هذه الحقيقة العسكرية الوحيدة هي التي تشرح عملية صنع القرار الإسرائيلي.
أضف إلى ذلك أنه برغم أن القطيعة بين تركيا وإسرائيل حقيقية، لا تستطيع تركيا بمفردها ممارسة ضغوط قوية على إسرائيل تتجاوز ميداني الرأي العام والدبلوماسية لما تشهده المنطقة من انقسامات عميقة. صحيح أن تركيا تملك خيار خفض مستوى تعاونها مع إسرائيل أو قطعه، لكن لا يوجد في العالم العربي حلفاء محتملون ستكون في حاجة إليهم للوقوف في وجه إسرائيل. لذلك تشعر إسرائيل أنها في منأى عن ردود الفعل التركية. وبرغم ما للعلاقات بتركيا من أهمية بالنسبة إلى إسرائيل، الواضح أنها ليست مهمة إلى الحدّ الذي يحمل إسرائيل إلى رفع حصارها عن غزة وإلى التعايش مع المخاطر التي تشكلها.
تتبنّى إسرائيل حالياً وجهة النظر نفسها التي تتبنّاها الولايات المتحدة. ومع أن الولايات المتحدة أصبحت حجر الزاوية في الأمن الإسرائيلي بعد سنة 1967، أصبحت إسرائيل أقل اعتماداً بدرجة كبيرة عليها اليوم. من ذلك أن حجم المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل تقلّص كثيراً بعد نموّ الاقتصاد الإسرائيلي. وعلى الرغم من أنه سيكون لشرخ في العلاقات بين الدولتين عواقب خطيرة على إسرائيل على المدى الطويل، يستطيع الإسرائيليون تدبّر أمورهم بفاعلية على المدى القصير.
على أن إسرائيل تواجه المشكلة الاستراتيجية التالية: إنها طليقة الحركة على المدى القصير، لكنّ أفعالها ستغيّر الإطار الاستراتيجي الذي تعمل من خلاله على المدى الطويل. كما أن التهديد الأعظم لإسرائيل ليس الرأي العام العالمي، برغم عدم تفاهته، وهو يبقى غير حاسم. لكنّ التهديد الحقيقي لإسرائيل هو أن أفعالها ستطلق العنان لقوى في العالم العربي ستغيّر ميزان القوى في نهاية المطاف. وبالتالي فإن العواقب السياسية العسكرية للرأي العام هي القضية الأساسية، وهذا هو السياق الذي يتعيّن على إسرائيل تقييم خصامها مع تركيا من خلاله.
التغيّر الأهم في نظر إسرائيل لن يكون اتحاد الفلسطينيين، وإنما عودة مصر إلى الموقف الذي تبنّته قبل كامب دافيد. ذلك أن مصر هي مركز ثقل العالم العربي وهي أكبر بلد فيه والقوة الدافعة في السابق للوحدة العربية والقوة التي خشيتها إسرائيل أكثر من أي شيء آخر. لكنّ موقف مصر من الفلسطينيين هو الذي تغيّر في عهد مبارك، وأهم من ذلك أنه تسبب في ضمور القدرة العسكرية المصرية.
على أنه إذا اختار خليفةُ مبارك الوقوف بجانب القوى الأخرى وعمد إلى إعادة بناء القدرة العسكرية المصرية، ستواجه إسرائيل معادلة إقليمية مختلفة للغاية. يمكن لتركيا معادية تقف بجانب مصر أن تسرّع استرجاع الجيش المصري قوته العسكرية وتوجد تهديداً خطيراً لإسرائيل. كما أن الرعاية التركية للتوسع العسكري السوري ستزيد من وقع الضغوط. وما عليك سوى أن تتخيّل عالماً يشكّل فيه المصريون والسوريون والأتراك تحالفاً يعيد إنهاض التهديد العربي ويعيد الولايات المتحدة إلى موقفها الذي كانت عليه في الخمسينيات من القرن الماضي عندما لم تكن تقدم مساعدات عسكرية لإسرائيل وسيتبين لك أن قوة تركيا الصاعدة والمقرونة بتحوّل سياسي في العالم العربي ستشكّل خطراً داهماً على إسرائيل.
عندما لا يعود هناك ميزان قوى، تستطيع الدولة المهيمنة أن تتصرّف كما تشاء، لكنّ المشكلة في ذلك أن هذا الوضع يرغم الدول المجاورة على محاولة إيجاد توازن للقوى. ولمّا كانت مصر وسوريا تشكلان في الماضي خطراً لا يُستهان به، من مصلحة إسرائيل التزامهما موقفاً سلبياً. لكنّه لا يسع الإسرائيليين التغاضي عن التهديد المتمثل في أن أفعالهما ستطلق عمليات سياسية تحملهما على الرجوع إلى سلوكهما السابق. ولا يزال الإسرائيليون يتذكرون الكلفة التي ترتبت على استهانتهم بمصر وسوريا في سنة 1973. إن سرعة استعادة القدرات العسكرية أمر ملفت، وما عليك سوى أن تتذكر كيف أن الجيش المصري تمزّق أشلاءً في سنة 1967، لكنه استطاع شنّ هجوم أثار فزع إسرائيل في سنة 1973.
يملك الإسرائيليون اليد الطولى على المدى القصير. لكنّ الشيء الذي يتعيّن عليهم أخذه في الحسبان هو معرفة إن كانوا سيحتفظون بهذه اليد بسبب أفعالهم. صحيح أن الانقسامات في العالم العربي، ومنها الانقسامات في الجانب الفلسطيني، لن تتبدّد بين عشية وضحاها وأنه لن يبرز في العالم العربي تهديد عسكري استراتيجي بسرعة، لكنّ الوضعية الحالية للعالم العربي ليست ثابتة. وبالتالي، يبدو أن نزع فتيل الأزمة الحالية سيكون ضرورة استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل على المدى الطويل.
أدت الأفعال الإسرائيلية إلى حدوث تغيرات في ميداني الرأي العام والدبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والعالمي. لكنّ الإسرائيليون يعتقدون أن هذه الأفعال لن تُحدث تغييراً بعيد المدى في الوضعية الاستراتيجية للعام العربي. إذا كانوا مخطئين في حساباتهم، ستكون الأفعال التي قاموا بها مؤخراً خطأً استرايتيجاً فادحاً، وإذا كانوا مصيبين، تكون تلك حادثة أخرى عابرة وحسب. في النهاية، تعمل الانقسامات العميقة التي يشهدها العالم العربي على حماية إسرائيل وعلى جعل التوصل إلى حلول دبلوماسية للتحدي الذي تمثله أمراً يكاد أن يكون مستحيلاً، فأنت لست في حاجة إلى محاربة قوى شديدة الانقسامات، لكن يصعب إلى حدّ بعيد الدخول في مفاوضات شاملة مع مجموعة تفتقر إلى أي شيء يمكن أن يقترب من مستوى الرأي الواحد.


 

2010-07-30 08:41:47 | 1736 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية