التصنيفات » دراسات

التداعيات الاستراتيجية لأزمة أسطول غزة على دولة "إسرائيل" *


 

1. مقدمة
"إن المواجهة ستكون في المرة القادمة مع العدو الصهيوني نفسه وفي عرض البحر".
مقطع من مقابلة أجرتها جريدة الانتقاد الإلكترونية التابعة لحزب الله مع محمد صوالحة في كانون الثاني 2010.

تعالج دراسة الحالة هذه ضربةً سياسية استراتيجية سُدّدت إلى إسرائيل بعد التخطيط لها بدون انقطاع منذ شهر شباط 2009، ونُفّذت في 31 أيار 2010. باتت القضية تُعرف باسم "أسطول غزّة"، وقد تجاوز هذا الجهد الأخير توقعات منظميه بإلحاقه أذىً كبيراً وملموساً بإسرائيل.
جرى التخطيط لأسطول غزّة عبر الإنترنت وفي المؤتمرات العامة التي دعت إليها منظمات غير حكومية، وبخاصة التي تعمل في المدن الكبرى بالدول الصديقة لإسرائيل، مثل لندن ودبلن وسان فرانسيسكو.
كان أسطول غزّة مجرّد رأس جبل الجليد في السياق العريض. وكان بمثابة حدث من سلسلة ترتيبات في سياق حملة عنوانها "شريان حياة غزّة" صُممت لكسر "حصار" غزّة. والحملة في حدّ ذاتها واحدة من بين العديد من الحملات الموجَّهة ضدّ إسرائيل، مثل "حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات"، و"استراتيجية ’الحرب القانونية‘" ومؤتمرات دبلن.
تشكل هذه الحملات بمجموعها هجوماً عالمياً منهجياً شاملاً على إسرائيل وعلى نموذجها السياسي والاقتصادي. وهذه الحملات تتغير وتتكيّف باستمرار وهي تكتسب زخماً. وهدفها النهائي نزع شرعية إسرائيل تمهيداً لتفجيرها من الداخل أسوة بحالات الانهيار التي شهدتها دول مثل الاتحاد السوفياتي وأفريقيا الجنوبية في زمن التفرقة العنصرية. نفّذت هذا الهجوم قوتان متعاونتان عملتا على خطين متوازيَين أولاهما ’شبكة المقاومة‘ التي تقودها إيران وحماس وحزب الله، وهي تنكر حقّ إسرائيل في الوجود بناء على إيديولوجيا دينية قومية عربية وإسلامية. والثانية هي ’شبكة نزع الشرعية‘ والتي تركز جهودها في عدد قليل من المدن الرئيسية مثل لندن وبروكسل ومنطقة خليج سان فرانسيسكو، وهي تنكر حقّ إسرائيل في الوجود استناداً إلى حجج سياسية أو فلسفية أو تاريخية.
تواجه إسرائيل هذا الخطر من موقع ضعف استراتيجي جليّ، وهي تعاني من مفاجآت كبيرة متجددة ومن نكسات. ومع أن التحدّي عالمي ومنهجي شامل يغلب عليه الطابع السياسي، لا يزال الردّ الإسرائيلي محلياً وانفعالياً ومتأثراً بالوضع الراهن في الأساس ويغلب عليه التفكير العسكري والممارسات العنيفة.
ربما أدى التغيّر في سياسة إسرائيل تجاه غزّة على صعيد حركة السلع المدنية إلى تجريد حملة شريان غزّة من سلاحها وبالتالي ربما حققت استراتيجيةُ الأسطول الغاية التي تُرتجى منها. لذلك، ربما يكون التركيز على اعتراض الأسطول التالي أشبه بالاستعداد لحرب نشبت بالأمس.
في هذه الأثناء، تتكيف حملة "نزع شرعية إسرائيل" باستمرار، وستتبنى الشبكةُ التي أرسلت الأساطيل منطقاً وشكل حربٍ جديدة. لذلك، يقتضي الردّ الإسرائيلي على الأساطيل التي ستأتي في المستقبل وعلى الحملة العريضة التي تُشَنّ ضدّ إسرائيل معالجةً منهجية شاملة لتحدّي دُعاة نزع الشرعية.
كان لأسطول غزّة تداعيات ملموسة طالت الشؤون الأمنية والخارجية الإسرائيلية، منها: تنظيم مظاهرات مناهضة لإسرائيل في مختلف أنحاء العالم، وتغيير السياسات الإسرائيلية الخاصة بغزّة على نحو اعتُبر أنه رضوخ للعنف، وزيادة المحاولات المبذولة لمقاطعة إسرائيل، وموجة من حالات إلغاء فنّانين دوليين بارزين مناسبات في إسرائيل، وتشكيل عدد من لجان التحقيق الدولية التي تطعن في النظام القضائي الإسرائيلي، وبروز تعاون أوثق بين العرب الإسرائيليين وشبكات المقاومة ونزع الشرعية. وبالإضافة إلى ذلك، استغلّت الحكومةُ التركية هذه الحادثة في تعقيد الأزمة مع إسرائيل.
قررت إسرائيل في أعقاب حادثة الأسطول تشكيل لجنتي تحقيق. حققت اللجنة الأولى برئاسة اللواء غيورا إيلاند (من قوات الاحتياط) في القرارات التي اتخذتها القيادة العسكرية وأصدرت تقريراً ونشرت بعضاً من استنتاجاته. وأريد من تشكيل اللجنة الثانية برئاسة القاضي المتقاعد في المحكمة العليا جاكوب توركِل أن تعمل كلجنة تحقيق مكلّفة من قبل الدولة، ومن المزمع أن تحقق في النواحي القانونية المرتبطة بالأسطول، فضلاً عن شرعية حصار غزّة. وأعلن المراقب العام كذلك عن نيته في إجراء تحقيق. يعكس التفويض الممنوح لكلتا اللجنتين الطرح القائل بأن الأخطاء التي أحاطت بأسطول غزّة كانت عملانية تقنية أو تكتيكية سياسية بطبيعتها. لذلك ركزت اللجنتان على تعليل الأعمال التي أمر بها صنّاع القرار بناء على القوانين والتشريعات المرعية الإجراء وعلى الممارسات المقبولة.
في أعقاب الإعلان عن انتداب اللجنتين، قرّر معهد ريئوت إجراء تحقيقه الخاص بناء على تحليل السياسة المنهجية وعلى الإطار المفاهيمي لتحدّي نزع الشرعية تحت عنوان "تحدّي نزع شرعية إسرائيل": بناء جدار عازل سياسي". الهدف من التحقيق الذي أجراه معهد ريئوت المساهمة في فهم المدلول الاستراتيجي للحادثة وتقديم اقتراحات للحيلولة دون وقوع حوادث مشابهة في المستقبل.
يعتبر معهد ريئوت هذه الدراسة نقطة انطلاق لعملية "مفتوحة المصادر" تقوم على تطوير المعرفة في إقامة شراكات مع الشعوب على صعيد مدلول أسطول غزّة، فضلاً عن الاستنتاجات والتوصيات ذات الصلة. وبالتالي نحن نرمي إلى دعوة هيئات إضافية والجمهورِ العام إلى تقديم اقتراحاته أيضاً.
 

2. فهمُنا لتحدّي "نزع الشرعية"
واجهت إسرائيل في السنين الأخيرة تحدياً جديداً معتمداً على إنضاج عمليتين:
- التعقيد المتزايد لحركة حماس وكفاءتها و"منطق الانفجار الداخلي" لشبكة المقاومة. المراد من استخدام هذا المنطق التعجيل بحدوث انهيار داخلي في إسرائيل من خلال "استنفاد قواها" عبر منعها من إنهاء سيطرتها على الشعب الفلسطيني، ونزع الشرعية عنها وتطوير عقيدة لخوض حرب غير متكافئة مع الجيش الإسرائيلي ولا توفّر السكان المدنيين الإسرائيليين. وهذا المنطق يستلهم من انهيار الاتحاد السوفياتي ونظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا.
- تطوير شبكة نزع الشرعية. تهدف هذه الشبكة إلى تحويل إسرائيل إلى دولة منبوذة بحيث تزول عن الوجود في نهاية المطاف. تعتمد هذه الشبكة على عدد من العواصم التي يستطيع عدد صغير نسبياً من الأفراد والمنظمات تعبئة المشاعر فيها للطعن في شرعية إسرائيل. يكمن نجاح شبكة نزع الشرعية في قدرتها على استنهاض النخبة التقدمية الليبرالية الغربية. وهي تقوم بذلك باستخدام وسائل متعددة بهدف التستّر على نواياها الحقيقية.
يتزايد تعقيد الأفكار التي تؤمن بها المجموعتان ونضجها وتماسكها حتى وإن لم يتبيّن بعد أنها تمثّل استراتيجية واضحة لها أهداف عملانية أو جداول زمنية أو محطات رئيسية.
برز تعاون بين شبكة المقاومة وشبكة نزع الشرعية في السنين الأخيرة، وهما تقيمان صلات يجري تفعيلها من خلال دورة مراجعات تسرّع الديناميات التالية:
- الترويج لحل الدولة الواحدة. في حين ترمي شبكة المقاومة إلى إضعاف أية محاولة للفصل بين إسرائيل والفلسطينيين بناء على حل الدولتين، تعمل شبكة نزع الشرعية على تشويه سمعة إسرائيل بوصفها "دولة احتلال" وطرح حل الدولة الواحدة.
- تكبيل أيدي إسرائيل في صراعها مع حماس وغزّة (أو مع حزب الله في لبنان). في حين تعمل شبكة المقاومة على تعزيز نموذج "حماسْتان" كواجهة لصراعها الإيديولوجي والعسكري مع إسرائيل، تكبّل شبكةُ نزع الشرعية أيدي إسرائيل بشلّ قدرتها على المناورة السياسية والعسكرية ومنح حماس صفة الشرعية.
 تقود هاتان المجموعتان هجوماً منهجياً شاملاً على النموذج السياسي والاقتصادي الإسرائيلي الذي يعاني أصلاً من ذيول استراتيجية ربما تصبح وجودية في حال تم التغاضي عنها أو التعامل معها بشكل غير مناسب. أضف إلى ذلك أن إسرائيل تعاني من ضعف مفهومها الاستراتيجي في تعاملها مع هذا التهديد. بعبارة أخرى، لا يوجد لدى إسرائيل ردّ فاعل على التحدي الذي تواجهه. وقد تسبب هذا الموقف الضعيف بمعاناة متكررة لإسرائيل نتيجة لخيبات الأمل السياسية والدبلوماسية، على الرغم من تفوقها الكمّي والنوعي في المجال العسكري والتكنولوجي والاقتصادي. وعلى سبيل المثال، باتت قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها عسكرياً مشكوكاً فيها، وسيادتها عرضة للانتهاك بسبب التدخل الدولي المتزايد في شؤونها الداخلية واستخدام نظامها القضائي ضدّها، فضلاً عن حملات المقاطعة التي تواجهها.

3. مرونة حماس وتصلّب "إسرائيل"
تضافرت جهود شبكة نزع الشرعية وشبكة المقاومة صراحة أو ضمناً لإضفاء الشرعية على حكومة حماس وتقويتها عقب الفوز الذي حققته الحركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني (كانون الثاني 2006). وتماشى إعلان حماس بطلان الاتفاقات التي كانت قائمة حتى ذلك الحين بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل مع الإيديولوجيا التي تحرّك هاتين الشبكتين.
وطوال هذه المدة، أثبتت السياسية الإسرائيلية، التي تقوم على منع تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية إلى حين تحقق الشروط الثلاثة التي وضعتها اللجنة الرباعية، أنها غير فاعلة في حمل حماس على تغيير مواقفها أو في التسريع بزوالها.
وبالمقابل، تعاظمت قوة حماس يوماً بعد يوم، في ما أصرّت إسرائيل على استراتيجيتها، إلى أن قامت حماس بانقلاب في قطاع غزّة في حزيران 2007 وانتزعت السيطرة على القطاع من السلطة الفلسطينية ومن حركة فتح بالكامل. وبعد ذلك بوقت قصير، فرضت إسرائيل حصاراً على غزّة.
لا يزال يوجد عدد كبير من القضايا على الأجندة منذ ذلك الحين، مثل تثبيت وقف إطلاق النار على حدود إسرائيل مع غزّة، وتحميل حكومة حماس المسؤولية عن ضبط الجماعات المسلّحة، وإطلاق سراح السجناء الفلسطينيين، وإطلاق سراح جلعاد شاليط، والمعابر الحدودية بين غزّة وإسرائيل ومصر والعالم، والوحدة الوطنية الفلسطينية، وتهريب الأسلحة إلى غزّة من البحر أو من مصر.
تلخّص عملية الرصاص المصبوب (كانون الثاني 2009) مشكلة إسرائيل مع غزّة: لا رغبة لدى إسرائيل في السيطرة على غزّة وهي تؤْثر حكومة حماس الحالية على الفوضى. بالإضافة إلى ذلك، إسرائيل أكثر ارتياحاً إلى الانقسام الحالي بين الضفة الغربية وقطاع غزّة منها إلى حكومة وحدة وطنية تجمع بين حماس وفتح. على أنه لم يطرأ تغيّر جوهري على السياسات الإسرائيلية، برغم التغيرات الجذرية التي شهدها الواقع السياسي والدبلوماسي منذ كانون الثاني 2006، وعلى الرغم من فشل تلك السياسات في تحقيق النتائج المرجوّة. في هذه الأثناء، استطاعت حماس التكيف باستمرار مع الواقع الجديد، مظهرة حدساً استراتيجياً واضحاً نسبياً في المراحل المختلفة للمواجهة مع تعزيز مكانتها على الصعيدين المحلّي والدولي، برغم موقفها الضعيف في الميدان الاقتصادي والعسكري والسياسي.
التغيّر الرئيسي الذي طرأ على سياسة حماس منذ عملية الرصاص المصبوب كان اكتشاف أهمية الساحة الدولية في الصراع مع إسرائيل، فاستغلّت حملة نزع الشرعية بفاعلية. وبناء على هذا المنطق، قامت حماس بتعديل بعض مكونات صورتها وسياستها، بالإضافة إلى تحويل موارد الشبكات التي تساند الحركة إلى أوروبا للترويج لحملة نزع الشرعية.

4. إستنتاجات التحقيق الرئيسية
 ينبغي النظر إلى أسطول غزّة بأنه آخر تجلّيات هجوم منهجي شامل على النموذج السياسي والاقتصادي الإسرائيلي ويرمي إلى تقويض شرعية إسرائيل. كما أن أبرز التجلّيات الأخرى تتضمن على سبيل المثال حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل، والحرب القضائية على كبار القادة الإسرائيليين (الحرب القانونية)، واستخدام تقرير غولدستون في ضرب إسرائيل.
 شكلّ أسطول "مفاجأة جوهرية" كشفت الفجوة بين المذهب الذي يحكم تصرفات إسرائيل في المسائل الأمنية والسياسية وبين الواقع. والأزمة التي تلته لم تكن حصيلة فشل في جمع المعلومات الاستخبارية وإنما فشل منطق التفكير. لذلك، على الرغم من أهمية التحقيق الذي تقوم بها اللجنتان آنفتا الذكر في العديد من النواحي التقنية لحادثة الأسطول، ينبغي على إسرائيل تشكيل فِرق استراتيجية يمكنها التعرّف على الفجوات بين القرارات والواقع وتقديم ردّ منهجي يحول دون مفاجآت جوهرية إضافية ويعيد لإسرائيل تفوقها الاستباقي.
 كان على متن سفن الأسطول مجموعتان: مجموعة "نازعي الشرعية" ومجموعة "المنتقدين". تسعى المجموعة الأولى التي يبدو أنها كانت أقلّية لنزع شرعية وجود إسرائيل تمهيداً لإزالتها عن الوجود. وهي التي نظّمت أسطول غزّة الذي شكل أحد مشاريع حملتها. وكانت المجموعة الثانية، التي يبدو أنها كانت أكثرية كبيرة، مدفوعة بمعارضة ما تعتبره سياسة إسرائيل غير العادلة وغير الإنسانية تجاه غزّة.
 مثّل أسطول غزّة التعاون الأول من نوعه بين حماس وحركة المقاومة من جهة، وبين شبكة نزع الشرعية التي تنشط في الغرب من جهة أخرى. كما ذكرنا، جاء الأسطول ثمرة أربعة عشر شهراً من التخطيط الذي أشرفت عليه منظمات غير حكومية في المدن الكبرى، مثل لندن ودبلن وسان فرانسيسكو وإسطنبول، وهي مدن تقع أساساً في دول صديقة لإسرائيل. رأت حماس في الأسطول فرصة استراتيجية فاستنفرت شبكة مناصريها وناشطيها بفاعلية بناء على ذلك.
 كانت المشاركة التركية "الفارق الذي أحدث فارقاً"، بما أن تركيا شكلت "نقطة تلاقي" شبكة المقاومة مع شبكة نزع الشرعية. وبناء على ذلك، تبنّت الحكومة التركية موقف شبكة المقاومة في التعاطي مع حكومة حماس في غزّة مؤثرة تلك الحكومة على السلطة الفلسطينية؛ وحوّلت قضية غزّة وحصارها إلى نقطة خلاف رئيسية مع إسرائيل، واستخدمتها في تحدّي مصر المنافس الاستراتيجي لتركيا. كما قدّمت دعماً ضمنياً وملموساً إلى مؤسسة المساعدات الإسلامية التركية.
 بيد أن قدرة منظمي الأسطول على حشد الشخصيات الكبيرة المنتمية إلى النخبة التقدمية الليبرالية في الغرب هي التي قوّت أسطول غزّة وحوّلته إلى حدث عالمي وانفجار سياسي. أثمرت مقاربة الخيمة الكبيرة التي تقوم على "دعوة الجميع" عن مشاركة إسلاميين متطرّفين ومفكرين أوروبيين، ومشاركة يهود ومسيحيين ومسلمين، فضلاً عن العرب الإسرائيليين وغيرهم. وعلى الأرجح أن هدف أغلب المشاركين لم يكن الترويج لحملة نزع شرعية دولة إسرائيل.
 شكّلت المواجهة العنيفة التي اندلعت في أعالي البحار "صراع أوصاف" خسرت فيه إسرائيل. إن القدرة على نزع شرعية إسرائيل متجذّرة في الجهود الناجحة التي بُذلت لوصفها بأنها دولة احتلال وكيان عدواني يتجاهل ويحتقر حقوق الإنسان والقانون الدولي. وبالمقابل، وُصف منظمو الأسطول في إطار مقاومة "الاحتلال" و"الاضطهاد" والدفاع عن السلام وعن حقوق الإنسان، والتجاوب الأخلاقي مع "الأزمة الإنسانية" في غزّة، والامتثال للقانون الدولي. وبما أنه جرى تأطير الصراع في هذا السياق، كانت هزيمة إسرائيل في ميدان العلاقات العامة حتمية.
 إن السياق الأوسع للعملية السياسية الإسرائيلية الفلسطينية مهم أيضاً. ولأسباب مختلفة تتحمل إسرائيل المسؤولية عن بعضها، لا يُنظر إلى الدولة اليهودية بأنها تكافح بصدق من أجل السلام أو أنها ملتزمة بحقّ بإنهاء سيطرتها على الفلسطينيين أو مهتمة بتخفيف وطأة الأوضاع الإنسانية في غزّة. وهذا التصوّر يفتّت الجدار السياسي العازل لدولة إسرائيل.
 لم تدرك إسرائيل على العموم خطورة التهديد الذي تمثّله الحملة التي تهدف إلى نزع شرعيتها. وبناء على ذلك، فشلت إسرائيل في تكريس الموارد الكافية لجمع المعلومات الاستخبارية ذات الصلة، وتصميم خطة عمل، والعمل بشكل دؤوب على تنفيذها.
 أدى الفشل في توهين قضية الأسطول من الناحيتين العملية والسياسية وفي تشويه سمعة القيّمين عليه قبل الحادثة إلى تضييق كبير لهامش المناورة المتاح لإسرائيل بعد أن أبحر الأسطول. لذلك، لم يبق لدى إسرائيل سوى الاختيار بين الاستيلاء على السفن وسحبها إلى ميناء أشدود أو السماح لها بكسر الحصار المفروض على غزّة.
 حققت حملة "شريان غزّة" أهدافها عقب القرار الإسرائيلي برفع ما تبقى من قيود على نقل السلع المدنية إلى غزّة. برغم أن محطّ تركيز الحملة التالية المناهضة لإسرائيل غير معروف إلى الآن، الواضح أنها ستهدف كذلك إلى الطعن في شرعية إسرائيل. وسوف تستغلّ "قضية بارزة" في الوقت المناسب وسيشرف على تنظيمها الشبكة نفسها التي أشرفت على تنظيم أسطول غزّة.
 لذلك، فإن التركيز على منع تنظيم أساطيل أخرى في المستقبل أشبه بالتخطيط لحرب اندلعت بالأمس. لكنّ التحدي الحقيقي هو التعامل مع الشبكة التي نظّمت أسطول غزّة في سياق حملة شريان حياة غزّة، فضلاً عن التعامل مع الحملات الأخرى التي ستشرف بالتأكيد على تنظيم الحملة التالية أيضاً.
 خطة عملانية مقترحة للتعامل مع الأساطيل المقبلة. ربما كان في استطاعة إسرائيل إضعاف قضية الأسطول لو أنها تبنّت في مرحلة مبكرة مقاربة استراتيجية وثيقة الصلة بالواقع تقتضي:
- صياغة سياسة واضحة تجاه غزّة. تفتقر السياسات الإسرائيلية تجاه غزّة إلى الوضوح وإلى الانسجام الداخلي. لذلك، تبيّن أن الترويج الفاعل للسياسات الإسرائيلية مهمة مستحيلة.
- جمع معلومات استخبارية عن منظمي الأسطول الذين كانوا من كبار الشخصيات في حملة نزع الشرعية. وبذات السياق، كان سيتبين أن لمؤسسة المساعدات الإنسانية الإسلامية سجلاً حافلاً بالعنف.
- كان ينبغي إفشال مهمة الأسطول باستخدام منظمات غير حكومية وأفراد ينشطون في مراكز حملة نزع الشرعية، أي في لندن وأيرلندا والسويد وسان فرانسيسكو في هذه الحالة. لكنّ إسرائيل وحلفاءها فشلوا في فهم الحاجة إلى العمل في هذه الأماكن في هذا السياق.
- ربما كان تنظيم حملة لتشويه سمعة منظمي الأسطول سيدقّ إسفيناً بينهم وبين المنظمات الأوروبية اليسارية الأخرى التي شاركت في الأسطول. بيد أن الفشل في القيام بذلك عزز التصوّر بأن سائر المشاركين في الأسطول كانوا "معارضين للحرب" ويريدون فقط التعبير عن معارضتهم للسياسة الإسرائيلية تجاه غزّة وإيصال مساعدات إنسانية إلى سكان غزّة.
- تلميع صورة إسرائيل خلال المرحلة التي سبقت تنظيم أسطول غزّة عبر التركيز على الوضع في غزّة بشكل أساسي. في حين غفلت إسرائيلُ عن الاهتمام بصورتها على المسرح الدولي، ركزت شبكةُ نزع الشرعية بشكل منهجي على تشويه صورة إسرائيل.
- ربما كان التواصل مع المشاركين "الهامين" في الأسطول من خلال العلاقات الشخصية سيقنعهم بعدم المشاركة.

5. مبادئ وتوصيات للتصدي لحملة نزع شرعية "إسرائيل"
 أصبحت حملة نزع الشرعية أصلاً وهاجساً استراتيجياً له مضامين وجودية محتملة، وينبغي التعامل معها بناء على ذلك. لذا ينبغي لإسرائيل جمع معلومات استراتيجية عن نشاطات حملة
 نزع الشرعية بطريقة منهجية وتحديد الجهات الرئيسية التي تحرّكها. وعلى هذا الأساس، ينبغي لإسرائيل صياغة خطة عمل وتنفيذها للوقوف في وجه الداعين إلى نزع شرعيتها.
 إن الالتزام الإسرائيلي الصادق والمتسق بإنهاء السيطرة الإسرائيلية على الفلسطينيين، وصون حقوق الإنسان، والتشجيع على مزيد من دمج العرب الإسرائيليين والمساواة بينهم وبين اليهود الإسرائيليين شرط لازم لمحاربة دعاة نزع الشرعية. ويتعين أن ينعكس هذا الالتزام في استراتيجية متسقة وشاملة تجاه غزّة وتجاه العملية السياسية مع الفلسطينيين.
 ينبغي لإسرائيل تطوير قدرتها على تحقيق "انتصارات متزامنة" في الميادين العسكرية والسياسية والإعلامية والقضائية والمحلية. سيقتضي ذلك إجراء مراجعة شاملة للمبادئ التي تحكم الشؤون الأمنية والخارجية الإسرائيلية والخطط الإجرائية ذات الصلة.
 ينبغي لإسرائيل اعتماد استراتيجية شاملة لتحدي الدور الجديد الذي تلعبه تركيا في الخدمة كهمزة وصل بين شبكة المقاومة وشبكة نزع الشرعية في قضية أسطول غزّة. وبالإضافة إلى ذلك، تواصل تركيا تعزيز روابطها بإيران وسوريا في ما تتمتع بروابط أمنية واقتصادية وثيقة بإسرائيل وبتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة ومع الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه.
 لكي تحارب شبكة، أنت في حاجة إلى شبكة. يُشرف على حملة نزع شرعية إسرائيل شبكةٌ من المنظمات الغير حكومية التي تنشط في عدد من العواصم الدولية. وينبغي أن تكون عرقلة نشاطات هذه الشبكة محطَّ التركيز الأساسي لجهود مناهضة نزع الشرعية. وينبغي القيام بذلك من خلال:
- تدريب الدبلوماسيين الإسرائيليين على العمل في المراكز العالمية. ينبغي لإسرائيل تحديد مراكز نشاطات نزع الشرعية في مختلف أنحاء العالم وتكريس موارد كافية لمحاربتها. وينبغي أن تركّز على إحباط النشاطات التحفيزية على زرع الشقاق بين مكونات الشبكة المختلفة، عبر التمييز أساساً بين منتقدي السياسات الإسرائيلية ودعاة نزع الشرعية.
- تعهُّدُ الشبكة الإسرائيلية من خلال المؤسسة الدبلوماسية وشبكة من "سفراء غير رسميين" تتألف من أفراد ومنظمات غير حكومية ينبغي استنفارها للتصدي لشبكة نزع الشرعية.
 إن إعادة تلميع صورة إسرائيل عنصر لازم في التصدي لشبكة نزع الشرعية بالإضافة إلى قدرة إسرائيل على توصيل رسائلها بفاعلية وشلّ قدرة شبكة نزع الشرعية لمنعها من تحقيق أهدافها.
 التحاور مع النخبة التقدمية الليبرالية. لا تملك القوى الغربية التي تساند جهود نزع الشرعية إسرائيل سوى قوة سياسية هامشية. لكنها قادرة على "توجيه لكمات تفوق وزنها" لقدرتها على حشد طائفة من الجماعات الليبرالية والنخب التقدمية والناشطين وإقناعهم بتبنّي مواقف مناوئة لإسرائيل وتقديم دعمهم للحركات المناهضة لإسرائيل. لذلك، ينبغي لإسرائيل وحلفائها تركيز الجهود على التحاور مع هذا القطاع الأساسي من خلال:
- بناء مجموعة من العلاقات الشخصية مع النخب المحلية عبر القنوات الرسمية والمنظمات الخاصة والأفراد.
- التحاور البنّاء مع منتقدي السياسات الإسرائيلية، ونخصّ بالذكر المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان، عبر ضمان التواصل معهم وتقديم ردود تستند إلى الحقائق وإلى الواقع. ذلك أن إسرائيل لا تعبأ بمنتقديها غالباً وهذا يدفعهم إلى التواصل مع دعاة نزع الشرعية.
- تسمية دعاة نزع الشرعية والتشهير بهم وفضح نشاطاتهم لعزلهم وتهميشهم.
- نزع شرعية حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات التي يشرف عليها دعاة نزع الشرعية والتي تعتبر المسؤولة عن العديد من المحاولات الرامية إلى عزل إسرائيل.

* العنوان الأصلي  أسطول غزّة: انهيار الجدار السياسي العازل لدولة إسرائيل
المؤلف لجنة خبراء ومحللين  - جهة الإصدار  معهد ريؤت، تل أبيب
تاريخ الإصدار  8 آب 2010 - عدد الصفحات  10 صفحات
جهة إصدار الترجمة  مركز دراسات وتحليل المعلومات الصحفية
تاريخ إصدار الترجمة 17 آب 2010

2010-08-20 12:26:59 | 1707 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية