التصنيفات » دراسات

رؤية صهيونية للسياسة الروسية وإمكانية التقارب معها




مدخل إلى فهم سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط**

1. مقدمة البحث
تشير الأحداث المتسارعة في روسيا وجيرانها من الجمهوريات المجاورة إلى دخول عنصرين هامين في السياسة الخارجية الروسية:
1. الأهداف السياسية التي وضعتها موسكو منذ أن كانت عاصمة للاتحاد السوفيتي الواسع، وما الذي تغير عليها بعد أن تقلصت مساحته الحالية؟
2. الموقع التي تراه روسيا ملائما لها على الساحة الدولية، لاسيما على صعيد العلاقة مع حلفائها في الغرب. 
يأتي ذلك وقد اكتمل العام الثامن عشر على انفراط عقد الاتحاد السوفيتي، وبالتالي لا يمكن الحديث عن سياسة خارجية لروسيا، دون استعادة طبيعة العلاقات التي أقامتها خلال السنوات القليلة التي سبقت انهيار الاتحاد السوفيتي.
الرئيسان الروسيان السابقان، "غورباتشوف ويلتسين"، ومساعداهما، قاما بسياسة خارجية خلال الفترة الماضية أثبتت كم كانت خاطئة وفاشلة، وجوهر الإخفاق تمثل باقتناعهما أنه في اللحظة التي تتساوى فيها روسيا مع الولايات المتحدة على صعيد "التوازن النووي الاستراتيجي"، فإن ذلك وحده سيحفظ التساوي في المواقف السياسية، حتى لو لم يتخلله مواجهة عالمية.
القانون المعروف بـSTART 1، الموقّع بعد أيام قليلة من فشل الانقلاب الذي وقع في آب 1991، وقبل أربعة أشهر على تفكك الاتحاد السوفيتي، أثبت هذا التساوي الاستراتيجي في الوزن الدولي لكلا القوتين، روسيا والولايات المتحدة، لاسيما بعد أن أجرتا تقليصات ملحوظة في برامجهما النووية. ولأمد قريب، بقيت روسيا الدولة الوحيدة القادرة على تدمير الولايات المتحدة، كما قال ذات مرة الرئيس الأمريكي الراحل "نيكسون"، إلا أن تغييرات كبيرة طرأت على المعطيات الدولية، في مختلف المجالات، أرجعت روسيا للمكان الرابع، وربما الخامس، بين القوى الدولية الأعظم، وتحديدا بعد الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الصين.
وبالإمكان التطرق لعدد من الأسباب التي أدت لهذا التراجع، بالرغم من غياب المواجهة العالمية، لاسيما بالنظر للتدهور الاقتصادي لروسيا، خاصة وأن مستوى الدخل الروسي بلغ 250 مليار دولار أوائل سنوات التسعينات من القرن الماضي، وشاهدنا بأم العين حجم التقهقر في القوة الروسية الآخذة بالأفول.
الساسة الروس تنبهوا جيدا للمعطيات الدولية القائمة حاليا التي لا تخدم بالضرورة المبادئ التي وضع أركانها الأولى "الآباء المؤسسون" لروسيا السوفيتية، وعبر عن ذلك بصورة أكثر وضوحا "يفغيني بريماكوف" وزير الخارجية منذ أوائل 1996.
في مذكراته التي نشرها لاحقا، يذكر أنه قبل توليه وزارة الخارجية، ساد شعور في موسكو أن العلاقة التي ينبغي أن تربطها بواشنطن، لا تختلف كثيرا عن العلاقات التي جمعت ألمانيا واليابان بالولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، القائمة على أساس أن الأمم التي تصاب بهزيمة قاسية ليس لها إلا أن تلتحق بالأمم المنتصرة! وحسب هذه الرؤية، توجب على روسيا أن تكون حليفا أساسيا للولايات المتحدة، على الأقل، ويضيف: إن تحالفا وشراكة من هذا النوع لم تكن في الحسبان من الأساس.
وبالتالي شهد عهده في صناعة السياسة الخارجية الروسية تمايزا واضحا عن السياسة الأمريكية، وبدأ بالبحث عن المناطق والمجالات الأكثر استفزازا لواشنطن، للبحث عن المصالح الروسية بمعزل عن نظيرتها الأمريكية. ولذلك، واصلت السياسة الخارجية الروسية صياغة مبادئها وطريقة عملها، بأسلوب ووسائل تختلف كليا عن سابقتها، وكأنها في "حل" من أي سياسة سبقت تولي "بريماكوف" لوزارة الخارجية، لاسيما على الساحة الدولية. وتمثل الدافع الأساسي للبحث عن سياسة خارجية جديدة، في أن مرحلة ما بعد ثبوت فشل المبادئ الشيوعية، كان على روسيا "الأمة" أن تدخل مرحلة البحث عن هوية جديدة، بعيدا عن "التذبذب" بين الشرق والغرب.
ولذلك، لم يكن غريبا عقب الضربة الروسية المؤلمة الموجهة لجورجيا، جنوب أوسيتيا قبل عامين، ظهور السؤال الكبير في شتى المحافل: هل باتت روسيا والغرب على حافة الدخول في حرب باردة جديدة؟ من الواضح أن هناك إرباكا ما زال يسود السياسة الخارجية الروسية، حتى كتابة هذه السطور، لاسيما وأنها تحاول "صناعة" تهديدات مفتعلة أحيانا، لتبرير عودتها لصيغة الحرب الباردة، مع العلم أن الظروف في كلا المرحلتين التاريخيتين مختلفة كليا.

2. عداء روسي مُبطـّن للغرب
هنا يجب الإشارة إلى نقطة قد تغيب عن الكثيرين وهم يُقيّمون السياسة الخارجية الروسية، وهي أن النسبة الغالبة في المجتمع الروسي لا ترى نفسها جزءا أساسيا من العالم الغربي، ولا تشعر بالانتماء الحقيقي تجاه الثقافة الغربية. على العكس من ذلك، هناك مشاعر عدائية تجاه الغرب، لاسيما الولايات المتحدة وحلفائها، ويتقصد الروس إظهار هذه المشاعر بين الحين والآخر، ومع ذلك، لا ينسون أن التحالف الغربي قدم الكثير لروسيا، في المجالات التالية:
1. انضمامها لمجموعة G8.
2. اتفاقية التعاون المشترك مع حلف الناتو.
3. إشراكها في الرباعية الدولية لإحلال التسوية في الشرق الأوسط، بجانب الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتحدة.
4. المساعدات المالية الاقتصادية المقدمة لها من الدول الغربية. 
مع كل ذلك، لا يرى الغرب في روسيا ذلك الابن الذي غاب طويلا، وعاد أخيرا لحضن العائلة، ولهذا، وحفاظا على "كرامة" روسيا، فإن مسألة انضمامها لحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، ليست على أجندة النقاش اليوم، على الأقل في المستقبل القريب، وربما كان ذلك شعورا مشتركا، بين روسيا والغرب معا.
من وجهة النظر الروسية، يمكن تفهم هذا المنطلق في مشاعر المجتمع الروسي، لاسيما بالنظر لتاريخ طويل يمتد لمئات السنين، وما رافقها من تنافس روسي مع دول غرب أوروبا، الذي يبدأ أصلا من النزاع التاريخي الديني بين المسيحيتين، الغربية والشرقية، فضلا عن الاحتلال التتري المنغولي لروسيا بين القرنين الثالث عشر وحتى الخامس عشر.
وبالتالي، يمكن تفهم وجهة النظر الروسية، نفسيا وسيكولوجيا، والتطرق لحالة الإهانة التي ألمت بالأمة الروسية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأسفرت في النصف الثاني من القرن العشرين عن بروز الخصم التقليدي لها، ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية.
بالتأكيد، هناك الكثير من المصداقية لهذه المزاعم، ولكن في ذات الوقت يجب التطرق حقيقة لما حصل في أعقاب ذلك، وتحديدا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وخيبة الأمل التي ألمت بروسيا في ضوء تراجع موقعها الدولي أمام دول الغرب، وعلى هذه الخلفية، تم وضع أسس جديدة لكيفية تعاملها مع القضايا الدولية، لاسيما خلال العشر سنوات الأخيرة.
عمليا، شكلت هذه السياسة تغيرا استراتيجيا في التعامل الروسي على الساحة العالمية، بخلاف ما حصل خلال السنوات الـ18 الماضية، مع وجود بعض الاستثناءات التي شهدتها السياسة الروسية، ومنها على سبيل المثال: موافقة الرئيس الروسي السابق "فلاديمير بوتين" على تواجد الجيش الأمريكي وسط قارة آسيا، انطلاقا من قناعته بشأن الحرب ضد "الإرهاب" المنطلق أساسا من أفغانستان، ولذلك رأى في تواجده مصلحة مشتركة لروسيا وأمريكا.
ومع ذلك، شكلت السياسة الخارجية التي أعلنتها روسيا، بعد الخمس سنوات التي تلت انتهاء الاتحاد السوفيتي، حجر الزاوية في تعاملها مع الغرب، وتعامله هو معها.
ولكن يمكن النظر بعين من الانتباه إلى أن التحسن الاقتصادي الذي طرأ على روسيا عمل لصالح هذا التحول في السياسة الخارجية، ما اعتبر ترسيخا لها حيال العالم الخارجي، تحديدا في النصف الثاني من العقد السابق، وهو ما خدم عمليا سياسة "بوتين"، الداخلية والخارجية على حد سواء.
لهذا، يمكن القول والاتفاق على أن واضعي السياسة الخارجية في موسكو، بدءا بالنصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، لم يضعوا في اعتبارهم أي مصالح مشتركة مع الغرب، باستثناء محاربة "الإرهاب"، ومنعه من حيازة أسلحة الدمار الشامل.
ورغم أن روسيا لم تصنف معادية للغرب بصورة واضحة، فلم تعتبرها في ذات الوقت شريكا ومتحالفا معه، مما وضع المزيد من العقبات والعوائق أمام الولايات المتحدة وحليفاتها على الساحة الدولية، لاسيما في النطاق الجغرافي الذي تشمله روسيا، وأعني دول الاتحاد السوفيتي السابق، حيث تتجلى حجم التعارضات الواضحة والمعلنة بين المصالح الغربية والروسية.

3. النطاق الجغرافي للاتحاد السوفياتي
رغم أن الانهيار المفاجئ للإمبراطورية السوفيتية شكل أزمة كبيرة في تاريخ الأمة الروسية، فإن من الصعب التقدير أن الروس يشتاقون لليوم الذي وصلت فيه حدود دولتهم إلى ألمانيا وبلغاريا جنوب أوروبا، رغم أن هناك أقلية معدودة منهم "يحنون" لذلك المجد الضائع، والسيطرة الجغرافية على تلك المناطق.
ومع ذلك، هناك شعور متعاظم بشكل ملحوظ من بعض الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفيتي السابق، تجاه الغرب، لاسيما من قبل أوكرانيا، القريبة من حدود القوقاز وأواسط قارة آسيا، وتناميا لقوتها في مختلف المجالات.
صناع القرار في موسكو أوضحوا أن تعاظم تلك الجمهوريات، وميلها نحو الغرب، يطلق عليه "كارثة" بالمفهوم الروسي، وحتى كتابة هذه السطور، ينظر الروس لفقدان سيطرتهم عليها على أنها "خسارة قومية"، وحتى اللحظة لم يسلموا بذلك، نظريا على الأقل.
على العكس، فقد عاشت حروبا أهلية داخلية، أهمها: حرب في مولديفيا، حربان في جورجيا، ثلاثة حروب بين الأرمن والأذريين، حرب في طاجيكستان، أسفرت جميعها عن سقوط ما يزيد عن مائة ألف قتيل، ونصف مليون جريح، وملايين المواطنين المهجرين.
روسيا من جهتها، تعود وتؤكد في كل مناسبة، أن عشر جمهوريات كانت تابعة للاتحاد السوفيتي السابق تحتل أولوية في تفكيرها الاستراتيجي الحالي، وتشكل رأس الحربة في مصالحها القومية، وهي: أوكرانيا، بيلاروسيا، مولديفيا، جورجيا، أرمينيا، أذربيجان، تركمانستان، أورزبكستان، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، فيما جمهوريات بحر البلطيق، التي لا تشترك في اتحاد دول CIS لا تكاد تذكر من قبل الروس، علنيا على الأقل، كما هو الحال مع الجمهوريات السابقة.
ومع ذلك، وفي ظل استمرار الزعامة الحالية، بقي التعامل الروسي مع الجمهوريات المستقلة "براغماتيا" إلى حد ما، دون انتهاج سياسة متطرفة قد تؤدي لنتائج سلبية، وبدا واضحا خلال الحرب الروسية الجورجية الأخيرة، للسيطرة على جنوب أوسيتيا، مدى ذكاء الروس في التعامل مع الخطوات غير الصائبة من قبل الرئيس الجورجي:
- فقد اتخذوا ضده إجراءات عسكرية قاسية غير متوقعة.
- واعترفوا بالإقليم المتنازع عليه.
- وأوشكوا على احتلال العاصمة "تبليسي"، ومناطق أخرى في جورجيا.
وبالتالي، شكلت خطوات موسكو التي حققت بموجبها أهدافها، في نظر الأوروبيين "تجاوزا للخطوط الحمراء" في استخدام القوة العسكرية والإجراءات السياسية، وهو ما لم تستطع الأسرة الدولية استيعابه مع مرور الوقت.
مع ذلك، فإن قيام دولة فدرالية موحدة، على غرار الاتحاد السوفيتي السابق، لم تكن، ولن تكون، هدفا حثيثا للكرملين، لأنه منذ ما قبل نهاية الإمبراطورية السوفيتية، أدرك بعض الساسة الروس جيدا أن امتداد إمبراطوريتهم على كل تلك الأنحاء الجغرافية، لن يمكنهم من السيطرة عليها، ولن يكون من السهل عليهم وضع سياسات اقتصادية واجتماعية موحدة لجميعها، مما سيترك آثاره السلبية بالتأكيد على تراجع التأثير الروسي عليها.
بهذا الواقع الحالي، تستطيع روسيا اليوم الاستمرار في سياستها، العسكرية الدبلوماسية، الاقتصادية، في مناطق الاتحاد السوفيتي السابق، دون السيطرة الجغرافية على كامل أراضيه.
وخلال السنوات الماضية التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، حاولت بذل جهود حثيثة لحماية مصالحها الإقليمية والدولية، لمنع "تسلل" عناصر غربية لنطاقها الجغرافي، لاسيما من الولايات المتحدة، التي تحاول تعقب الجمهوريات، وتمنعها من الوقوع في "تبعية" روسيا.
النطاق الجغرافي للاتحاد السوفيتي السابق، يشكل النقطة الأكثر احتكاكا واستفزازا بين المصالح الروسية والأمريكية، وبالتالي يعتبر "التدحرج" الحاصل في خطوات توجه بعض الجمهوريات للانضمام لحلف الناتو، تجاوزا خطيرا "للخط الأحمر" الذي وضعه الكرملين.
ومن خلال ما يصدر من وثائق روسية رسمية، تحدد موسكو مصالحها الإستراتيجية على النحو التالي بشكل لا يقبل التأويل:
- المحافظة على استقرار الجمهوريات السوفيتية السابقة،
- منع سيطرة العناصر الجهادية الإسلامية عليها،
- الحيلولة دون إقامة علاقات مع الأقليات الإثنية والعرقية، التي يصل تعداد سكانها 19 مليون نسمة، بما فيها المصالح الاقتصادية، العسكرية.
الخبراء في المجال العسكري يرون أن حدود الأمن الروسي تصل للحدود الجغرافية القديمة للاتحاد السوفيتي، ما يجعلهم ماضون في تثبيت تواجدهم العسكري في أنحاء مختلفة من الجمهوريات السوفيتية السابقة، وحتى نهاية العام الحالي 2008،  تحتفظ روسيا بقوات عسكرية على طول الحدود السوفيتية القديمة، تقدر بعشرة قواعد ومحطات عسكرية، وعدة عشرات من آلاف الجنود، وما يقرب من 20 ألف تقني وفني عسكري.
وخلال خطاب هام ألقاه "بوتين" في المؤتمر السنوي أمام مجموعة من الدبلوماسيين في يوليو 2004، أشار إلى مدى الاهتمام الحيوي الذي تكنه روسيا للأراضي السوفيتية السابقة، مما يمنحها الحق الكامل والصلاحية المعترف بها للتدخل فيها، بكل الوسائل والأساليب، وعلى رأسها الحق في استخدام القوة العسكرية، وتفعيلها لحل النزاعات التي تنشب بين الحين والآخر، والحفاظ على استقرار الأوضاع الأمنية، والدفاع الكامل عن المواطنين الروس القاطنين فيها.
 

4. مبادئ السيطرة الروسية على مجالها الحيوي
بناءً على ما سبق، يمكن النظر لكيفية تطبيق السياسة الروسية في هذا المجال، والتعامل مع النطاق الجغرافي الخاص بها، من خلال المبدأين التاليين:
1- استعادة جزء من تلك المناطق قدر الإمكان من جديد، تحسبا من مخاطر السيطرة الإمبريالية المتوقعة عليها، والوثيقة الأكثر حداثة، الصادرة في يوليو 2008، بعنوان: "الرؤية السياسية الخارجية للدولة الروسية"، تؤكد بشكل واضح أن أي نزعات "استقلالية" للجمهوريات المستقلة ستقابل برد فعل قاس من قبل موسكو، ولذا عليها العمل على تقريب أواصر الصلة، والتنسيق المشترك، مع الدولة الأم، روسيا، رغم امتناع الوثيقة عن ذكر خيارات أخرى قد تلجأ لها روسيا في حال أخلت الجمهوريات بهذا المبدأ.
2- الشرعية الدولية، فقد حرصت الزعامة الروسية منذ البداية على اكتساب الشرعية الخارجية لكل خطوة إستراتيجية قد تقدم عليها للدفاع عن مصالحها الحيوية، ولذلك، فإن معرفة المجتمع الدولي المسبقة بالخطوات التي يمكن ان تقدم عليها روسيا، دفعها لاستخدامها بصورة تلقائية.
وربما اعتقدت روسيا في السنوات الأولى، أن الغرب سيعطيها الصلاحية الكاملة، وسيمنح يدها الحرية اللازمة، للعمل كما تراه مناسبا في وسط آسيا والقوقاز، انطلاقا من قناعته بأنها وهي التي تحد آسيا من الجهتين الجنوبية والغربية، تشكل جدارا فاصلا ضد قوى الإسلام المتطرف، والحفاظ على الاستقرار في تلك الدول. ولكي تحفظ روسيا قدرتها على التأثير الاقتصادي والعسكري، فهي تعتمد على مؤسستين هامتين:
1- منظمة التحالف الأمني الجماعي CSTO: التي تقوم بالتنسيق العسكري السياسي بين روسيا من جهة، مع كازاخستان، أوزبكستان، قرغيزستان، طاجيكستان، أرمينيا، بيلاروسيا من جهة أخرى.
2- المنظمة الاقتصادية الإيرو-آسيويةEEC: للتنسيق بين اقتصاديات الدول الست المذكورة مع روسيا.
كما يوجد لها اتفاقيات ثنائية وجماعية، توقعها تلك الجمهوريات، أو أي منها، كما حصل في الاتفاقية التي وقعتها كازاخستان مع روسيا لاستخدام المستودعات النووية، وإرسال الأقمار الصناعية.
ومن اللازم، في هذه العجالة، التوضيح أن الوثائق الرسمية الروسية تقدر بصورة جلية أن المخاطر والتهديدات المحيطة بروسيا تتمثل في:
1. الإرهاب العالمي.
2. الإسلام الأصولي.
3. تهريب المخدرات من أفغانستان.
4. الهجرة غير الشرعية.
فيما الأخطار والتهديدات غير الظاهرة تتمثل في التأثيرات الآخذة بالتزايد عبر بعض الأطراف الخارجية، وترك بصمات لها في مختلف المجالات: الاقتصادية، السياسية، العسكرية، في الدولة الروسية والجمهوريات المجاورة لها.
فقد برزت إلى السطح التحركات التركية تجاه الشعوب الروسية الناطقة باللغة التركية، لاسيما بلاد القوقاز ومركز آسيا، ومع مرور الوقت اتضح أن هذا التهديد غير جدي.
ولاحقا، تبين توجه إيران نحو "تصدير" الثورة الإسلامية للجمهوريات الإسلامية، ومع ذلك، اعترفت موسكو بالدور الكبير الذي قامت به طهران لتوقيع اتفاق وقف لإطلاق النار وصولا لحل سياسي لوضع حد للحرب الأهلية الضارية التي اشتعلت طويلا في طاجيكستان.
      وبالتالي، تبدى في نظر الاستراتيجيين الروس تهديدين مركزيين على طول الحدود الجغرافية، هما:
1. التهديد القادم من الصين، تحديدا بسبب موقعها في وسط آسيا.
2. التحالف الغربي، وتحديدا فيما يتعلق بالنطاق الجغرافي، تجاه الجمهوريات السوفيتية ذات الميول الغربية، خاصة أوكرانيا وجورجيا.
الصين بالمناسبة تبدي اهتماما غير خفي بالدول القائمة وسط آسيا، لسبب هام يتقدم على باقي الأسباب الخاص بمراكز الطاقة، وأنها باتت تشكل مصدرا هاما لتجارتها الخارجية، إضافة للعلاقات السياسية معها، حيث يصل مقدار المساعدات السنوية المقدمة من الصين لهذه الدول مليار دولار، ومع ذلك، فما من مؤشرات عملية، وبوادر سياسية تشير لرغبتها في "إبعاد" سيطرة روسيا عن تلك الجمهوريات.
وفي ضوء أن موسكو باتت ترى في التحركات السياسية والعسكرية للولايات المتحدة وحلف الناتو، منافسا لها في نطاقها الجغرافي، وأنها غير مستعدة للتكيف مع هذه التحرشات، فقد اختارت التعاون والتنسيق على أعلى المستويات مع بكين للحفاظ على الاستقرار في تلك المنطقة.
وشكل إقامة منظمة "شنغهاي للتعاون والتنسيق SCO" في 2001، التي تشترك في عضويتها: روسيا، الصين، كازاخستان، أوزبكستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، دافعا قويا وحافزا سياسيا لكلتا القوتين: روسيا والصين، لتمسكان بزمام تصويب مسار التحركات السياسية في تلك المنطقة، أملا في وضع حد للتدخلات الغربية فيها.
وخلال السنوات الثلاثة الأخيرة، حققت السياسة الخارجية الروسية عددا من الإنجازات ذات الأهمية الفائقة في منطقة وسط آسيا، لاسيما ما تحقق من انسحاب القوات الأمريكية العسكرية المرابطة في أوزبكستان من خلال الضغط الذي مارسته منظمة SCO، وعودة أوزبكستان بعد سنين من التردد والتذبذب بين الشرق والغرب، إلى حضن الدولة الأم، روسيا.
إلا أنه في الجمهوريات السوفيتية ذات الميول الغربية، تبدو الأمور أكثر تعقيدا، فهناك أربع منها ما زالت بمنأى - بصورة أو بأخرى- عن السيطرة الروسية، وهي: جورجيا، أوكرانيا، أذربيجان، مولديفيا، المعروفة باسم جمهوريات الـGUAM.
ومع ذلك، أدركت روسيا كيف تستغل التباينات العرقية والاختلافات الإثنية الموجودة في الفئات السكانية لدى تلك الجمهوريات، وهو ما تبدى واضحا في الحرب الروسية الجورجية الأخيرة، حيث وقفت روسيا بجانب الأقليات الأبخازية والأوسيتية، وبدت كمن تدافع عن أقليات منتهكة الحقوق.
ولذلك، يرى الكرملين أن ممارسة المزيد من الضغوط على جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، تجعله مسيطرا على نطاقها الجغرافي، بما فيها الجمهوريات التي تبدي رغبة غير خافية بالتوجه نحو الغرب.
ويمكن النظر لحجم الأذى الذي لحق بروسيا جراء النجاحات التي حققتها جورجيا عام 2003، وأوكرانيا بين عامي 2004-2005، فيما عرف حينذاك بـ"ثورة الألوان"، واقترابهما أكثر من أي وقت مضى من الالتحاق بحلف الناتو، من خلال وقوع الكرملين فعلا في حيرة من أمره بين عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتلك الجمهوريات، وفي ذات الوقت عدم "ضياعها" من نطاقه الجغرافي لصالح الغرب، وإلى الأبد.
وأسفر هذا التطور عن عدم وصول التدخلات الروسية في تلك الجمهوريتين حدا يثير استفزاز الغرب، لمعرفة موسكو أن تأثيراتها فيهما سيبقى محدودا وغير ذو فعالية، ووجد هذا الإحجام الروسي ترجمته في عدم التدخل باستخدام قواتها العسكرية لحسم بعض الخلافات، إلا أن الأمر اختلف حين استنفرت القوات الروسية خلال الحرب، وتطور بصورة سريعة لاحتلال العاصمة الجورجية "تبليسي".
هذا الحذر الروسي في السابق، كان يرمي أساسا لعدم حصول صدام روسي غربي، وبالتالي اعتقدت موسكو أن عدم تجاوزها للقواعد المتفق عليها مع الغرب، سيضمن لها تعايشا نسبيا، والبحث التالي سيتطرق لتفاصيل ذلك.

5. روسيا والغرب.. ميزان القوى
لاشك أن روسيا اليوم تمثل الدولة الأهم عالميا في إنتاج الطاقة، فهي تنتج الكمية الأكبر من الفحم، الغاز الطبيعي، وتضم أراضيها 33% من حجم الإنتاج العالمي لتلك المصادر. كما توفر ما نسبته 40% من حجم احتياجات أوربا الغربية والشرقية من الغاز الطبيعي، ووفقا لكثير من الدراسات والتقديرات فإن العشرين سنة القادمة ستشهد توسعا في هذه النسبة لتصل 75% من هذه الاحتياجات والمتطلبات.
وخلال عام 2007، أنتجت روسيا نسبة عالية من النفط الخام، وتعتبر اليوم الدولة الثامنة عالميا في إنتاجها للنفط الخام، وقدرت المصادر المتخصصة حجم الإيرادات السنوية للخزينة الروسية من صادراتها في مجالات الطاقة المختلفة 530 مليون دولار يوميا، ووفقا لحسبة بسيطة يتضح أنها تجبي ما يقرب من مائتي مليارد دولار سنويا.
هذه الأرقام تشير إلى أن أي قطاع آخر من قطاعات الاقتصاد الروسي لا يجبي هذه الموارد المالية، بقدر ما تقدمه مجالات الغاز الطبيعي ومشتقاته. مع كل ذلك، فإن إجراء مسح دقيق لمجالات الاقتصاد الروسي بمعزل عن قطاع الغاز يشير لحقيقة مفادها أنه اقتصاد صغير نسبيا، وإليكم بعض الأرقام التوضيحية:
- حجم المدخولات المالية لروسيا خلال عام 2007 بلغ 1.42 تريليون دولار، وفي بريطانيا وصل 2.84 تريليون دولار، وفرنسا 2.68 تريليون دولار، وألمانيا 3.43 تريليون دولار، وإيطاليا 2.22 تريليون دولار.
- إلقاء نظرة تفصيلية على حجم المدخولات المالية للولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، يشير إلى أن مدخولات الاقتصاد الروسي لا تتجاوز 5% من المدخولات الغربية!
- بالنظر للاقتصاد الروسي بجانب جيرانه الاقتصاديات الشرقية، فهو يتأخر عن الاقتصاد الصيني الذي تصل مدخولاته 3.94 تريليون دولار، واليابان تصل مدخولاتها 4.96 تريليون دولار.
لكن التقييم يختلف كليا عند النظر للموازين العسكرية، حتى لو تبدى أمرا مفاجئا، لأنه منذ 1972 تعدل التوازن الاستراتيجي السوفيتي-ولاحقا الروسي- مع الولايات المتحدة.
عام 2008، وصل حجم الأسلحة الهجومية الإستراتيجية الروسية 3113 قطعة عسكرية، أقل بقليل مما تحوزه الولايات المتحدة، وهو ما تبدى بصورة واضحة عبر اتفاقية START 1 الموقعة عام 1991.
اتفاقية SORT الموقعة عام 2002، لم تتطرق بالتأكيد لمسألة المخزون من القوة النووية التي تمسك بها كلتا القوتين، باستثناء ما ذكرته حول عدد الصواريخ الإستراتيجية الجاهزة للاستخدام العملياتي، في محاولة منها لتثبيت التساوي الحاصل بينهما في قدرتهما في هذا المجال.
وكان واضحا أن روسيا تبدي رضا من الاعتراف بموقعها النووي، عبر الإقرار بأنها القوة الثانية عالميا بهذا المجال، لكنها في ذات الوقت لا تخفي قلقا روسيا متصاعدا من أن ميزان القوى في هذا النطاق بالذات، قد لا يجد استقرارا على المدى البعيد.
ويبدي واضعو النظريات السياسية الروسية اقتناعهم الواضح بأن الإمدادات المادية، والحوافز الاقتصادية، التي تتمتع بها الولايات المتحدة، يجعلها تتقدم على موسكو بصورة متسارعة، وبالتحديد في دعم تفوقها العسكري لاسيما في هذا المجال.
عمليا في عام 2008، رفعت الولايات المتحدة من مستوى موازنتها العسكرية الدفاعية إلى أن وصلت إلى 480 مليار دولار، بمعنى أنها تفوق الموازنة العسكرية الروسية بأكثر من 13 مرة، التي وصلت فقط إلى 35 مليار دولار.
مسئولون روس بارزون في المؤسستين السياسية والعسكرية اعترفوا في الماضي أكثر من مرة، أن أحد الاعتبارات المفصلية في دخول موسكو مفاوضات للتوقيع على اتفاق وقف التسلح النووي في العالم، تمثل في رغبتها لمنع تواصل هذا التسلح العالمي، وتخوفها من أن تجد نفسها في النهاية ذات قدرات نووية متواضعة أمام الولايات المتحدة من جهة، ومن جهة أخرى، لإلزام الأخيرة بوضع قيود على بناء قدراتها الإستراتيجية في هذا المجال الحساس.
هذه القناعات تضع أمام صانع القرار الروسي مشكلتين أساسيتين:
1- المشكلة الأولى: لا ترى موسكو أن واشنطن متشجعة لمعاودة التفاوض من جديد حول بعض الاتفاقيات الخاصة بقضايا التسلح عموما، والنووي منه خصوصا، سواء لتجديدها، أو وضع تعديلات عليها لاسيما اتفاقية START 1 التي انتهى مفعولها أواخر عام 2009، واتفاقية SORT التي تنتهي عمليا عام 2012.
2- المشكلة الثانية: عدم الراحة التي تبديها موسكو من حالة التسارع الأوروبية في التسلح، الآخذة في التزايد، لاسيما بعد انسحاب القوات الروسية من ألمانيا وباقي دول الكتلة الشرقية.
وفي عدة مناسبات أكد عدد من المسئولين الروس أنه قبيل الانسحاب الفعلي للقوات السوفيتية/ الروسية بداية سنوات التسعينات من القرن الماضي، أكد لهم بعض المسئولين الغربيين أن حلف الناتو لن يستغل الفراغ الذي سيحدثه انسحاب قواتهم من هناك، لاسيما من وسط أوروبا وشرقها!
بالرغم من ذلك، تجد روسيا نفسها اليوم في وضع عسكري جديد، يتمثل في أن معظم الدول التي كانت سابقا أعضاء في حلف وارسو، أضحت اليوم أعضاء في حلف شمال الأطلسي، وغدا الطيران الغربي يحلق في أجوائها، وبات الجنود الأمريكيون يتجولون في أحياء رومانيا وهنغاريا، وصولا لبولندا، وما حصل أخيرا من توقيع اتفاقية الدرع الصاروخي في جمهورية التشيك.
الاعتراضات التي سجلتها روسيا على اتفاقية CFE يوضح نقطتين هامتين:
1- ملاحظاتها على الاتفاقية قديمة وغير محدثة، وتنطق من فرضية أن الاتحاد السوفيتي لا زال قائما بذاته، ولم تحصل تغييرات جوهرية في بناء القارة الأوروبية، بعد زواله.
2- محاولة قد لا تجد النجاح من قبل موسكو للعمل على تحريك ميزان القوى لصالحها، خاصة بالنظر لما يحصل، ويتغير بصورة متسارعة في بناء القوة العسكرية التقليدية في أوروبا.
إضافة لكل ما تقدم، من الواجب أن نذكر أن موسكو لا تعاني من قلق متنامي مع مرور الأيام من الناحية العسكرية فحسب، بل من الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تمر بها الدولة الروسية مع مرور العقد الأول الذي تلا انهيار الإمبراطورية السوفيتية، مما ألقى بظلاله بالتأكيد على صانع القرار الروسي عبر التأثير السلبي على بناء القوة الإستراتيجية التقليدية.
في تلك السنوات القاسية، أعاد الجيش بناء قوته العسكرية دون التزود بأحدث ما أنتجته المصانع التسليحية، ولم يعد يقتني أفضل المعدات اللوجستية، وباتت الأذرع الأمنية تكتفي بما نسبته 10% من احتياجاتها الحقيقية، لكن ذلك سرعان ما تغير وأحدث انقلابا حقيقيا، حين بدأ الوضع الاقتصادي يتغير رويدا رويدا في روسيا.
خلال فترة الرئيس "بوتين"، لاسيما في الولاية الرئاسية الثانية له، بدأت تعود لروسيا مشاعر الأمن الذاتي، وإمكانية العودة بها من جديد للساحة الدولية، بما يتضمنه ذلك من تطوير عسكري متعدد المجالات.
عام 2007، أقر "بوتين" خطته المشهورة باسم "السنوات السبع"، بتكلفة مالية قدرها 200 مليار دولار، لإحداث تحديث جوهري في القوات العسكرية الروسية، التقليدية منها والإستراتيجية على حد سواء، بما فيها بناء خمس حاملات للطائرات الحربية.
سلاح الطيران الروسي، قام باستعادة طلعاته الجوية التي سادت خلال فترة الحرب الباردة، حين حلقت قطع السلاح الجوي فوق أجواء المحيطات، وسرت إشاعات مفادها عن استعدادات روسية لإيجاد قطع بحرية في قلب البحر المتوسط، وما تم الحديث عنه بشأن وجود قوات عسكرية روسية في ميناء طرطوس السوري.
إذا تحقق بالفعل الطموح الروسي، يمكن القول إذن أن السنوات الأخيرة شهدت عملا روسيا حثيثا للارتقاء بقواتها العسكرية أكثر فأكثر، انطلاقا من قناعتها المتزايدة بعدم بقائها في هذا المكان المتواضع بين دول العالم.
ومع ذلك، وفي نظرة عملية على أرض الواقع، يجري هذا الجهد الروسي فيما تقوم الولايات المتحدة بتطويرات وتحديثات في شتى المجالات، وعلى كافة المستويات العسكرية، وكأن لسان حال موسكو يقول: لا مجال أمام واشنطن لتجاهلنا بعد اليوم، لا سياسيا ولا عسكريا.
ومن الواضح أن موسكو ستكون أكثر حذرا في التعامل مع الإدارة الأمريكية، وأن توقع على اتفاقيات جديدة لوضع رقابة على التسلح النووي في العالم، ومصير المناطق التي ترى أن لها فيها مصالح إستراتيجية، خاصة في ذات النطاق الجغرافي للاتحاد السوفيتي السابق، والمناطق الحدودية معها، وغير البعيدة عنها.

6. رؤية جديدة للعلاقات الدولية
لا تبدو موسكو قلقة من الاختلال الحاصل في ميزان القوى العسكري الاستراتيجي، على صعيد موقعه العالمي فقط، بل من طبيعة العلاقات السياسية السائدة بينها وبين دول الغرب. اقتصاديا، فإن أكثر من نصف مدخولات التجارة الخارجية الروسية مع الاتحاد الأوروبي، وحين تم التوقيع على اتفاق التعاون والتنسيق المشترك معه المعروف باسم PCA عام 1977، نظر إليها بعض الخبراء الروس الكبار على أنها لا تقل أهمية عن اتفاقية START 1.
المشكلة الأساسية في هذا السياق، من وجهة نظر موسكو، تتمثل في التوسع الحاصل، والمتزايد يوما بعد يوم، للحلف العسكري الأطلسي، بقيادة الولايات المتحدة، الذي بات اليوم أشد قوة ومنعة أكثر من أي وقت مضى من أوقات الحرب الباردة.
قيادة حلف الناتو من جهتها، تتفهم جيدا زيادة المخاوف الروسية من التوسع الحاصل لديه، وزيادة عدد الدول المنضمة تحت لوائه، تحديدا في مرحلتي التوسع اللتان أحدثتا جدالات كبيرة، عامي 1977، 2002، ولذلك أقدمت على اتخاذ عدد من الخطوات لتهدئة الخواطر الروسية. ونتيجة لذلك، تم إقامة المجلس التنسيقي المشترك بين حلف الناتو وروسيا عام 2002، وبات يعرف باسم "مجلس الناتو- روسيا NRC.
وكما تم التوضيح سابقا، وبعد مرور زمن قصير على انهيار الاتحاد السوفيتي، أدركت روسيا أنه ليس من اللائق لها أن تنخرط في حلف عسكري يشكل النظام الغربي بأسره، وعليها البحث عن طريق استقلالي لها، داخل الساحة الدولية. ولذلك دخل على القاموس السياسي الروسي خلال السنوات الأخيرة مصطلحات جديدة، داخلية وخارجية، أهمها مصطلح "الديمقراطية السيادية"، كما أصرت موسكو على انتهاج طريق مختلف عما تتخذه الدول الغربية من سياسات، لأن روسيا لا ترى فيها دولا مستقلة بذاتها، بل تابعة بشكل أو بآخر للسياسة الأمريكية.
هذه نقطة البداية التي تدل على طبيعة التحولات التي طرأت على سياسة روسيا الخارجية، في ضوء المخاوف التي لم تعد سرية لها، وهي ترى تعاظما في القوة العسكرية والسياسية للدول الغربية، أكثر من ذلك، فهي تبدي استغرابا كبيرا حتى اللحظة، من نظرة الدول الغربية نحوها، بما فيها الولايات المتحدة، وحلف الناتو، حيث ما زال العالم بنظرهم منقسم لفريقين، وروسيا في هذه القسمة ما زالت جسما غريبا.
هذه النظرة تجعل موسكو تقف موقف المعارض الدائم لأي استخدام للقوة من قبل واشنطن وحلفائها الغربيين في أي منطقة من العالم، دون الحصول على موافقة رسمية من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، وهو ما يفسر الرفض الروسي لتوجهات إمكانية استخدام القوة المسلحة لوقف تقدم المشروع النووي الإيراني، وإن تطلب الأمر منح إسرائيل صلاحية القيام بهذه المهمة.
والآن وبعد مرور ما يقرب من سبعة عشر عاما على نهاية الحرب الباردة، ما زالت روسيا ترفض الخضوع للغرب في الساحة الدولية، وهي حقيقة تساعدنا في فهم طبيعة التحرك السياسي الروسي لاستيعاب الأطراف المعادية للغرب وقواه المتحالفة معه في كافة أنحاء العالم، وبعد مرور عقد من الزمن نستطيع القول أن ذلك ما أرق السياسة الخارجية الروسية، في محاولة منها لتثبيت أقدامها على الساحة الدولية.
ومن إسقاطات هذه السياسة، ما تشهده اليوم العلاقات الروسية الصينية من تحسن غير مسبوق، منذ أن اتفقتا على ترسيم الحدود بينهما، ويمكن أن تشهد المزيد من الاستقرار في المدى المتوسط والبعيد، في ضوء التعاظم المتزايد للقوة الصينية، ومع ذلك، لا يخفي هذا التقارب حقيقة وجود بعض الخلافات غير المتوقعة بين الدولتين، كما حصل مثلا بالنسبة للنزاع حول وسط آسيا والشرق الأقصى الروسي.
على ذات الصعيد، لا تبدو روسيا متأكدة من متانة العلاقات الصينية الهندية التي تؤهل الدول الثلاث لمواجهة التمدد الغربي، وبالتالي ليس من ضمانات لوجود تنسيق ميداني سياسي على مختلف الجبهات لمواجهة السياسة الأمريكية. لهذا السبب أو ذاك، من الممكن الوصول لاتفاق أولي يتعلق بالصعوبات التي تواجهها السياسة الروسية خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، لاسيما في أعقاب تثبيت النظام العالمي الجديد، في ضوء افتقادها للإمبراطورية السوفيتية، وعدم سيطرتها على الكثير من المواقع الدولية.
عموما، تَظهر روسيا اليوم كما لو تعاني من وضع صعب مأزوم، لديه العديد من المشاكل القائمة في الوضع الحالي، خاصة في أوساط بعض الشعوب السوفيتية القديمة تجاه الغرب.

7. روسيا في الشرق الاوسط
شكل انتهاء الحرب الباردة، تراجعا في الأهمية الإستراتيجية للبحر المتوسط، وما كان يعرف في روسيا باسم "الشرق الأدنى"، ومع ذلك، فلم تغب هذه المنطقة كليا عن التفكير الاستراتيجي الروسي، وسلم أولوياتها، لسببين هامين:
1- السبب الأول: التقارب الجغرافي للحدود الروسية مع هذه المناطق المجاورة لها.
2- السبب الثاني: الموارد الطبيعية الغنية التي تتميز بها هذه المنطقة، لاسيما في ظل دول الخليج التي تتمتع بفرص اقتصادية كبيرة لا يمكن أن تغيب عنها روسيا.
هنا بالذات، لا يمكن الحديث عن تنافر بين روسيا والغرب في هذه المنطقة، على العكس، فربما شهدت هذه البقعة الجغرافية تعاونا مشتركا بين الطرفين. علما بأنه يجب التفريق بين الأهداف السوفيتية والروسية، ففي حين عمل الاتحاد السوفيتي خلال العقود الأولى عقب اندلاع الحرب الباردة، على تثبيت أركانه في المناطق الموالية للوجود الغربي، من خلال خلخلة النظم الحاكمة هناك، يبدو الهدف الروسي المعلن اليوم هو الحفاظ على الاستقرار السياسي في هذه المناطق.
بل يمكن القول اليوم بكل ثقة، أن روسيا تعتبر اليوم طرفا أساسيا في الحفاظ على منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي تجاوزت رغبتها بالحفاظ على الاستقرار الإقليمي تلك السياسة المتبعة خلال الحقبة السوفيتية.
روسيا، كدولة مركبة ومعقدة، مكونة من مئات الإثنيات والأعراق، ومن فئات سكانية مختلفة، تشعر أنها قد تكون مهددة بالفعل من قبل بعض القوميات وأصحاب الديانات المتباينة، مما يجعلها في بعض المناطق لا تنعم بالاستقرار، وأحيانا تخشى من وصول بعض هذه التهديدات من دول خارج الحدود. وقد انتهجت سياسة التدخلات السوفيتية في منطقة الشرق الأوسط، فعلى سبيل المثال، ومنذ أيام "غورباتشوف" كرئيس للاتحاد السوفيتي السابق، بقيت ترفص وبشدة أي محاولة لتغيير موازين القوى العسكرية بين سوريا وإسرائيل، وواصلت دعم الجهود الدفاعية السورية، لكنها لم تصل لبناء القوة الهجومية، رغم المطالبات السورية الحثيثة بهذا الخصوص، وكما هو معروف، لم تغير سياستها هذه حتى بعد أن قام الرئيس السوري "بشار الأسد" بزيارته في أغسطس 2008.
بكلمات أخرى، ترى موسكو أن رفع مستوى الصراع العربي الإسرائيلي إلى حدة أكبر، قد لا يكون مرضيا لها، لاسيما في ظل تزايد التدخل الروسي لإيجاد حلول له، بعد بروز "خارطة الطريق"، للوصول لتسوية للصراع له، كجزء من سياستها الخارجية في الشرق الأوسط، وبالتأكيد فإن هذا التدخل الروسي يمنحها دورا رغبت بالوصول إليه منذ زمن، متمثلا باعتراف دولي بموقعها المستقل في هذه المنطقة.
وشكلت السياسة الروسية انفكاكا واضحا عن السياسة السوفيتية السابقة لها، خاصة مع غياب الأيديولوجية الشيوعية، التي وجدت ترجمتها الحية خلال سنوات الحرب الباردة، وبالتالي وجدت موسكو موطئ قدم لها في هذه المنطقة، وتوسعا في دورها الإقليمي، لاسيما على صعيد التعاون مع دول الخليج، بجانب العراق والكويت، في مجالات التجارة والطاقة.
ومع كل ذلك، وبالنظر للماضي، شكل الموضوع الإسلامي بكل مجالاته، أحد أهم العناصر المؤثرة في صياغة السياسة الخارجية الروسية، وكان له دور كبير في إعطائها صبغة مختلفة عن سابقتها السوفيتية. والحديث يدور عن الأقليات المسلمة في أنحاء روسيا عام 2050، حيث ستشكل ما نسبته من 42.2% من السكان الروس عموما، مقابل 46.6% من باقي الروس من أصول إثنية مختلفة.
القيادة الروسية الحالية من جهتها، تدرك جيدا حجم المشاكل والأعباء الداخلية التي تعاني منها الدولة جراء هذه الأقليات، وفي ذات الوقت تقدر جيدا الوزن الدولي للكيانات الإسلامية على الساحة الدولية، وهنا تبرز الإشكاليات الداخلية التي تسببها الأقليات المسلمة لعلاقاتها الخارجية.
السعودية على سبيل المثال، كانت الجهة الخارجية الأكثر دعما وتمويلا للمتمردين الشيشان، وشنت هجوما ونقدا لاذعا جراء السياسة الروسية ضدهم، وباقي مناطق القوقاز، ومع ذلك، فقد قبلت الرياض أن تأخذ موسكو دور المراقب في منظمة الدول الإسلامية OIC.
علما بأن موسكو تبدي رغبة جادة بتطوير علاقاتها مع تلك المنظمة، وتدرك جيدا حجم الدول المنخرطة فيها على مستوى العالم الإسلامي، داخليا وخارجيا، وأثرها على سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط، إسرائيل، الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقضايا إقليمية أخرى.
الموقف الأكثر غرابة لروسيا في منطقة الشرق الأوسط يتمثل بنظرتها للمشروع النووي الإيراني:
1- من جانب واحد: لا يمكن التشكيك برفض نخبة من المسئولين الروس لإمكانية حيازة إيران للسلاح النووي، لاسيما بشقه العسكري، نظرا لمعرفة أخطاره.
2- من جانب آخر: البعد الاقتصادي المتمثل بحجم التجارة البينية، بين روسيا وإيران، بما فيها المواد التسليحية، العلاقات الاقتصادية، وتورط عناصر روسية في تطوير البرنامج النووي الإيراني.
من الواضح أن روسيا تجد نفسها اليوم في مشكلة كبيرة وجادة، فهي من جهة ترى أن إيران ماضية باتجاه حيازة السلاح النووي، ومن جهة أخرى تبدي توقعا من قيام الولايات المتحدة، ويمكن أن تكون إسرائيل، بتوجيه ضربة استباقية، ومن طرف واحد، باتجاه إيران. وفي سباق مع الزمن، فإن روسيا مدعوة لأخذ موقفها من كلا الخيارين، علما بأن واضعي السياسة الخارجية الروسية، وفي ضوء ما يتوفر من معطيات استخبارية حول وصول إيران إلى خط اللاعودة في حيازتها للسلاح النووي، لم تصل بعد للقرار الحاسم.
تكتفي موسكو في هذه الحالة بالحديث داخل مجلس الأمن الدولي عن صيغة العقوبات الاقتصادية ضد ظهران، رغبة منها في إرجاء الضربة العسكرية من قبل الولايات المتحدة، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا على أنه افتقار لاتخاذ القرار المناسب في مثل هذا الموضوع الحساس.

* * العنوان الأصلي : رؤية "إسرائيلية" للسياسة الروسية وإمكانية التقارب معها
المؤلف : عوديد عيران
جهة الإصدار : معهد أبحاث الأمن القومي الصهيوني -  أيلول 2010
ترجمة : مركز دراسات وتحليل المعلومات الصحفية -23 أيلول 2010



2010-09-29 11:28:16 | 1873 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية