التصنيفات » دراسات

خيارات اقليمية لفكرة "دولتين للشعبين"*


بقلم: غيورا آيلاند **
 مقدمة: صورة الوضع ومجال الامكانات
 في بداية 2010، لا يبدو أن اتفاق سلام اسرائيليا فلسطينيا يوشك أن يتم توقيعه في المستقبل القريب. كان ثمة من رأوا الواقع في ضوء أكثر تفاؤلا قبل عدة اشهر. كان سبب التفاؤل الموسمي هو السياسة الواضحة للرئيس الامريكي الجديد النشيط، براك اوباما، الذي جعل احراز السلام الاسرائيلي الفلسطيني بين العناصر الأساسية في سياسته الجديدة في الشرق الاوسط. وقد أعطت تصريحات الرئيس، وخطابه في القاهرة، وتعيين المبعوث الخاص جورج ميتشيل، شعورا بأن "هذا سيحدث هذه المرة".
 لكن الواقع الموضوعي كما يبدو في بداية 2010، ليس أكثر وعدا من جميع المرات السابقة التي حُركت فيها "مسيرة السلام"، بدءا بخريف 1993 (توقيع اتفاق اوسلو)، وصيف 2000 (مؤتمر كامب ديفيد)، وكانون الاول 2000 (خطة الرئيس كلينتون لانهاء الصراع)، وخريف 2007 (مؤتمر أنابوليس). اذا قارّنا الواقع في صيف 2000 بالواقع اليوم، فيبدو أن الوضع آنذاك كان أكثر وعدا من جهة موضوعية لستة اسباب:
 الاول – القيادة الاسرائيلية: آمن اهود باراك إذ كان رئيس حكومة بأنه يمكن التوصل الى اتفاق دائم وأن من الصحيح فعل ذلك، وعطف على المسيرة عطفا تاما. لا يمكن أن نقول الشيء نفسه عن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في سنة 2009.
 الثاني – القيادة الفلسطينية: برغم شخصية ياسر عرفات الاشكالية، تمتع بأفضلية ليست لوريثه، وأشك في أن تكون ذات مرة لأحد من ورثته: فقد كان يُرى الممثل الأعلى للمصلحة الوطنية الفلسطينية. ولم تعترض حتى المعارضة الفلسطينية وفيها حماس، على حقه في الحديث باسم الأمة الفلسطينية كلها (وفيها من في الشتات).
 الثالث – القيادة الامريكية: كان الرئيس كلينتون مستعدا لبذل الاصغاء والوقت، والمخاطرة السياسية بمشاركته الشخصية في التفصيلات. وأشك في أن يكون اوباما الذي تقلقه مشكلات كثيرة اخرى مستعدا للأخذ بتوجه مشابه. وأكثر من ذلك، أشك أن تكون الولايات المتحدة متمتعة اليوم بنفس المنزلة الدولية لقوة عظمى وحيدة كالتي كانت لها في سنة 2000.
 الرابع – زيادة قوة حماس: في سنة 2000 كانت حماس معارضة ينبغي أخذها في الحسبان، لكن لا يجب قبول إملاءاتها. ولحماس اليوم القدرة على منع كل اتفاق سياسي وهذا مؤكد في شأن اتفاق يشمل غزة.
 الخامس – الثقة بين الجانبين: في سنة 2000 كان مبلغ الثقة بين الجانبين ومستوى التعاون بينهما في ذروتهما. واليوم، بعد الانتفاضة الثانية وبعد سقوط غزة في يد حماس أشك في أن يُستطاع اقناع الطرفين، ولا سيما الطرف الاسرائيلي بالمخاطرة الأمنية وصنع "تنازلات مؤلمة".
 السادس – الوجود اليهودي على الارض: في سنة 2000 كان في الضفة 190 ألف يهودي (لا يشمل الأحياء اليهودية في شرقي القدس). ويقف عددهم اليوم على 290 ألفا. ازدادت الصعوبة الكبيرة في اتخاذ قرارات تعني إجلاء عشرات آلاف المواطنين الاسرائيليين عن بيوتهم.
 ينبغي أن نذكر الى هذه الاسباب الستة ايضا تحسن الوضع الاقتصادي في يهودا والسامرة. هذا التحسن مصحوب بجو اهدأ على الارض، يُحدث في ظاهر الأمر ظروفا أسهل للتفاوض السياسي. في واقع الأمر  يُضائل هذا التحسن الشعور بالازمة. يبدو أن المشكلة اليوم قابلة للادارة بحيث ان الحاجة الى حل (سياسي) شامل، تُرى أقل إلحاحا. وبمعنى ما فان توجه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي تحدث عن "سلام اقتصادي" ينجح في جزء منه.
 يصعب أن نؤمن بأن الجهد الدبلوماسي الذي فشل في سنة 2000 يمكن أن ينجح في سنة 2010 في الوقت الذي تغير فيه أكثر عناصر المعادلة الى اسوأ. يمكن اليوم الاختيار من بين اربعة توجهات ممكنة:
 التوجه الاول – يفترض أنه لا سبيل للتوصل الى حل سياسي في المستقبل القريب، ولهذا يُفضل ادارة الصراع وألا يُحاوَل حله.
 التوجه الثاني – يحاول التوصل الى "تسوية جزئية". يمكن بحسب هذا التوجه الاتفاق على ان تنشأ دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة. سيقتضي ذلك في الحقيقة نقل اراض اخرى الى الفلسطينيين، لكنه سيمنع الحاجة الى مجابهة مشكلات غير قابلة للحل كالحدود الدائمة والقدس واللاجئين والاعتراف المتبادل الكامل وانهاء الصراع.
 التوجه الثالث – يسعى الى التوصل لاتفاق دائم. فبرغم اخفاقات الماضي وبرغم الصعوبة، تنبغي محاولة التوصل الى الاتفاق الدائم اعتمادا على مبدأ "دولتين للشعبين". هذا هو الحل الوحيد بحسب هذا التوجه، وكل تأخير في تحقيقه سيزيد صعوبة احرازه في المستقبل والأخطار المشتقة من عدم وجود سلام.
 التوجه الرابع – يحاول التوصل الى اتفاق دائم لكن لا على أساس صيغة "دولتين للشعبين" خاصة التي فشلت عدة مرات في الماضي، بل بالبحث عن حلول اخرى. سيُعرض هذا التوجه في توسع في الجزء الثاني من المقالة.
 يعرض الجزء الاول من البحث (الفصول من 1 – 3) صعوبات التوجهات الشائعة لعلاج الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني ويُفسر هذا الواقع الصعب. ويُبين الفصل الاول صعوبة التوصل الى حل بحسب فكرة "دولتين للشعبين"، وسأحلل في الفصل الثاني من الوثيقة التوجهات الثلاث القائمة، وفي الفصل الثالث الأخطاء التي أدت بنا الى الواقع الحالي. وسأحاول في الفصلين الرابع والخامس الخروج من المخطط القائم واقتراح بديلين لاتفاق دائم عن رؤية اقليمية. وفي الخلاصة سأقترح طريقة للتقدم نحو تحقيق الخيارات المقترحة.
 الجزء أ
الفصل الاول – الصعوبة المبدئية التي تجعل حل الصراع صعبا
 المفارقة
 ثمة حاجة مُلِّحة الى حل الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني. يمكن أن نقول ذلك في ظاهر الامر في كل صراع دولي، لكن سببين يقتضيان إلحاحا أكبر والحديث عن الشأن الاسرائيلي – الفلسطيني.
 السبب الاول هو تأثير استمرار الصراع في حياة ملايين الفلسطينيين. فبخلاف أكثر الصراعات التي يوجد فيها اختلاف بين الدول في الحدود والارض (كالصراع بين اسرائيل وسوريا) يُرى الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني في العالم بأنه وضع يسيطر فيه شعب على شعب آخر. لم يعد "الاحتلال" ظاهرة مقبولة في القرن الواحد والعشرين لا بسبب الجانب السياسي فحسب بل بسبب جانبه الاخلاقي ايضا.
 والسبب الثاني هو أثر هذا الصراع على المنطقة كلها. فسواء كان الحديث عن اسباب حقيقية أم كان الحديث عن تخيل فقط، فان الانطباع في العالم هو أن استمرار الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني أحد عوامل عدم الاستقرار في المنطقة كلها. والى ذلك يوجد لاستمرار الصراع تأثير سلبي يتجاوز الشرق الاوسط. في سنة 2002 نفذ ارهابيون من أصل باكستاني سلسلة عمليات في قطار لندن الارضي. وادعى بعض المعتقلين في القضية أنهم فعلوا ذلك احتجاجا على معاناة الشعب الفلسطيني. أجرى رئيس حكومة بريطانيا آنذاك، طوني بلير، مقابلة صحفية مع محطة تلفاز اسرائيلية وقال: "أنا أعلم أن الارهابيين أنفسهم يستعملون الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني ذريعة فقط، لكن حتى مع ذلك لماذا نعطيهم ذريعة؟".
 تبدو الحاجة الى حل الصراع مهمة مُلحة للاعبين كثيرين في الساحة. ويوجد ايضا اتفاق دولي واسع على ضرورة الحل. يبدو انه يوجد اتفاق كامل ايضا يتعلق بشكل الحل، ومبدأ "دولتين للشعبين". بحسب هذا المبدأ ستكون بين الاردن والبحر دولتان، دولة اسرائيل ودولة فلسطينية في غزة والضفة. وستقوم الحدود بين الدولتين على خطوط 1967.
 يوجد لهذا الحل تأييد عام، من الصين واليابان في الشرق الى كندا والولايات المتحدة في الغرب، ومن النرويج في الشمال الى جنوب افريقيا في الجنوب. ويُؤيد الحل معا وعلى حدة ايضا جميع الاعضاء الدائمات في مجلس الأمن، ويؤيد العالم العربي رسميا الصيغة، وطرفا الصراع ايضا اسرائيل والسلطة الفلسطينية.
 تم بين الطرفين قبل تسع سنين تفاوض رعته الولايات المتحدة على أساس مبدأ "دولتين للشعبين". وقد عرض الرئيس كلينتون للخروج من الجمود في كانون الاول 2000 "معايير كلينتون" لانهاء الصراع. يوجد في هذه الوثيقة (التي تلاها شخصيا في حضور الطرفين) تطرق محدد الى كل قضية (الحدود والأمن والقدس واللاجئين وما أشبه) واقتراح مفصل لكيفية حل كل قضية. أراد كلينتون توازنا وبحث عن "نقطة الوسط" بين مواقف الطرفين المتناقضة.
 يجب أن يكون واضحا انه اذا جرى في المستقبل تفاوض جدي في التسوية الدائمة، واذا توصل الطرفان الى اتفاق، فسيكون الاتفاق مشابها جدا لما تم اقتراحه في "معايير كلينتون". وللتلخيص نقول ان الجميع موافقون على أن للطرفين مصلحة في انهاء الصراع، وانه يشارك في المصلحة نفسها دول المنطقة (المعتدلة) والعالم كله. والى ذلك ثمة موافقة على جوهر الحل ("دولتان للشعبين") ومن المهم جدا أن الحل على اختلاف تفصيلاته ايضا أصبح معروفا جيدا، وذلك على أساس اقتراح الرئيس كلينتون في نهاية سنة 2000.
 اذا كانت الامور كذلك فلماذا لم يتم التوقيع على اتفاق حتى الآن؟ وهنا المفارقة. إن اتفاق السلام هذا الذي تفصيلاته معروفة، ليس اتفاق سلام مرغوبا فيه! فالطرفان لا يريدانه لان الطرفين عالمان بالواقع السياسي المركب. فأقصى قدر تستطيع حكومة في اسرائيل (كل حكومة) عرضه على الفلسطينيين والبقاء سياسيا هو أقل كثيرا من أدنى قدر تستطيع ادارة فلسطينية (كل ادارة) قبوله والبقاء سياسيا. أي أن الجهازين السياسيين في اسرائيل وعند الفلسطينيين غير مستعدين لقبول الحل الذي اقترحه الرئيس كلينتون.
 صدام المطامح القومية
 الفرق في مواقف الطرفين أكبر اذا مما يبدو. فاذا أعرضنا عن تضارب مصالح شديد، وأعرضنا عن الصعوبة الموضوعية في تلبية الاحتياجات الضرورية للطرفين، فان الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني يعاني صداما قويا بين الروايتين الفلسطينية في مواجهة الصهيونية.
 أ- التصور الفلسطيني العام
 في سنتي 1936 – 1937 عملت في البلاد لجنة "بيل". كانت سلطتها أن تقترح حلا للمجابهة العِرقية في ارض اسرائيل مع انقضاء الانتداب البريطاني. وكان الحل الذي اقترحته اللجنة هو حل تقسيم البلاد في دولتين. كان يفترض أن يحصل العرب على أكثر البلاد (المنطقة بين الاردن والبحر) وكان يفترض أن يحصل اليهود على 17 في المائة. (منطقة صغيرة تشتمل على القدس كان يفترض أن تبقى تحت سيادة دولية).
 عارضت القيادة العربية في شدة اقتراح التقسيم وقدمت وثيقة مصوغة صياغة جيدة عبّرت فيها عن تعجب من أنه يجب عليهم تقاسم البلاد التي عاشوا فيها مئات السنين مع أناس آخرين أجانب جاء أكثرهم من اوروبا. لم يفهم عرب فلسطين لماذا يحظى العرب في السعودية والعراق والاردن وسوريا بـ "دولة غير مشروطة" في حين أن بلادهم يُعطى الاجانب جزء منها.
 لم يتغير هذا الموقف في 1948 ولا في 1967 ايضا. أصبح ثمة استعداد اليوم للاعتراف بواقع وجود دولة اسرائيل ايضا على ارض فلسطين، لكن معارضة أن يكون اليهود مستحقين لدولة "على حساب العرب" بقيت قوية كما كانت في الماضي تقريبا.
 الفلسطينيون على استعداد لتأييد "الدولتين" لكنهم يعارضون في شدة فكرة "دولتين للشعبين". وهم على استعداد للاعتراف بالوجود الواقعي لدولة اسرائيل لكنهم يعارضون في شدة الاعتراف بأنها دولة يهودية. والسبب مشايعتهم لعرب اسرائيل (وطلبهم جعل اسرائيل "دولة جميع مواطنيها")، لكنه يوجد ايضا سبب أعمق، وهو صعوبة قبول كون اليهود أمة لا ديانة فقط. يدرك الفلسطينيون أن انشاء دولة فلسطينية في حدود 1967 هو اعطاء الدولة اليهودية شرعية ايضا ويصعب عليهم قبول هذا. لا شك في أن الفلسطينيين يريدون التخلص من "الاحتلال" الاسرائيلي، لكن هذه الرغبة لا تمثل بالضرورة شوقا لعيش في دولة تخصهم. إن الفلسطينيين يُمجدون "سلب اراضيهم" أكثر من حلمهم بدولة لهم. انهم مليئون بمشاعر انتقام وارادة "عدل" تعويضا عن "الكارثة" (النكبة) وبضرورة الاعتراف بكونهم "ضحايا". ويهم الفلسطينيين أكثر من كل شيء أن يتم الاعتراف بحق اولئك الذين فقدوا بيوتهم في 1948 في العودة اليها.
 ب – التصور الصهيوني العام
 يحب اسرائيليون كثيرون استعمال خريطة الشرق الاوسط للاقناع بعدل الموقف الاسرائيلي. تُبيّن هذه الخريطة وجود 22 دولة عربية ضخمة ودولة يهودية صغيرة جدا واحدة فقط. إن العرب الذين يعيشون في "فلسطين" ويريدون تحقيق حقهم في السكن في دولة قومية عربية يستطيعون الاختيار من بين 22 امكانية. في مقابلة ذلك، لا يوجد لليهود حل آخر والمحرقة برهان ساطع على ذلك.
 لا يؤمن يهود كثيرون بأن الفلسطينيين ينوون الاكتفاء بدولة صغيرة (22 في المائة من مساحة ارض اسرائيل) ومُنقسمة بين الضفة الغربية وغزة. وهم يذكرون حقيقة أن الفلسطينيين لم يريدوا قط في الحقيقة دولة فلسطينية. فقد رفضوا مبادرتي التقسيم في 1937 وفي 1948، وعندما استطاعوا انشاء دولة بين 1948 و1967 لم يخطر ببالهم فعل ذلك. ورفض عرفات قبول اقتراحات باراك "السخيّة" في سنة 2000 برهان آخر على الرفض الفلسطيني.
 يمكن اثبات الدعوى الاسرائيلية بالوصف الآتي: لنفترض أننا انشأنا اليوم استفتاء للشعب بين الفلسطينين جميعا (ومن في الشتات ايضا) وعرضنا عليهم حلّين ممكنين لانهاء الصراع: الاول، "دولتين للشعبين" بحسب مخطط كلينتون مع تأكيد أن هذا الاتفاق هو انهاء للصراع وانهاء للمطالب، والثاني انه لا توجد دولة فلسطينية ولن تكون لكن دولة اسرائيل في مقابلة ذلك لن تكون، وهكذا ستُقسم الارض كلها بين الاردن والبحر بين مصر والاردن وسوريا ولبنان. ماذا ستكون نتائج هذا الاستفتاء المُتخيل؟ يؤمن اسرائيليون كثيرون بأن الامكانية الثانية التي تختفي فيها دولة اسرائيل كانت ستحظى باغلبية واضحة بين الفلسطينيين.
 يُقدر اسرائيليون كثيرون انه في كل مكان يُعبر فيه الفلسطينيون عن استعداد لقبول حل "دولتين للشعبين" يتم ذلك لاعتبارات تكتيكية – ففي البداية يحصلون على دولة وبعد ذلك يستمرون في الكفاح بحسب "نظرية المراحل". وذلك بخلاف التصور الصهيوني العام الذي أيد دائما (ما عدا السنين 1977 – 1992 التي كان فيها مناحيم بيغن واسحق شمير رئيسي حكومة) فكرة تقاسم البلاد.
 المواجهة بين الرؤية الصهيونية والرؤية الفلسطينية أقوى مما يبدو. فمنذ 1993 يوجد ميل اسرائيلي ودولي الى الاقلال من تأثيرها لكننا عندما نبلغ "لحظة الحسم" ونحاول التوصل الى تسوية، يصبح الفرق بين التصورين للشعبين عائقا يصعب التغلب عليه.
الفصل الثاني – التوجهات الثلاثة القائمة
 سأحلل في هذا الفصل التوجهات الثلاثة الاولى التي تم ذكرها: ذاك الذي يقول انه لا حل للصراع؛ وذاك الذي يقول انه يمكن التقدم الى حل مرحلي؛ وذاك الذي يقول انه يمكن برغم الصعاب التوصل الى تسوية دائمة الآن. سأصف في هذا الفصل كل واحد من التوجهات والاستنتاج الذي ينتج عن تحليلها.
 أ – التوجه الذي يزعم انه لا حل للصراع
 لا سبيل بحسب هذا التوجه الى عقد جسور فوق الفروق بين الطرفين. فاذا تجاوزنا المجابهة المبدئية بين التصورين الاسرائيلي والفلسطيني، كما وصفنا في الفصل السابق، فانه توجد ست مشكلات عملية ايضا تمنع القدرة على التوصل الى حل:
 1- مسألة الارض: فالارض بين الاردن والبحر أصغر من أن يمكن اقامة دولتين قابلتين للبقاء فيها.
 2- المستوطنات: سيقتضي اتفاق اسرائيلي – فلسطيني اجلاء نحو من 100 ألف اسرائيلي عن بيوتهم. وهذه المهمة أكبر من القوة السياسية لأية حكومة في اسرائيل. ينبغي أن نتذكر انه بين المستوطنات التي سيُحتاج الى اخلائها عوفرا وبيت ايل وشيلو وكريات اربع. وهذه مهمة غير ممكنة من الجهتين الدينية والقومية. والى ذلك تزيد الكلفة المباشرة لهذا الاخلاء على 30 مليار دولار (!) وليس واضحا هل يستطيع اقتصاد اسرائيل الوفاء بذلك.
 3- الشأن الأمني رحى: فالانسحاب من 97 في المائة من اراضي الضفة الغربية سيُحدث وضعا لا يكون فيه لاسرائيل "حدود قابلة للدفاع عنها".
 4- لا يوجد من يُعتمد عليه في الجانب الفلسطيني. فالاتفاق الذي تتخلى فيه اسرائيل عن مناطق حيوية قد يفضي الى سلطة حماس في الضفة (كما حدث في غزة).
 5- القدس: حتى لو أمكن الاتفاق على "تقسيم القدس" (أن تُنقل الأحياء العربية الى الدولة الفلسطينية) فلن تتخلى اسرائيل عن سيادة كاملة على المسجد الاقصى، ولن يوافق الفلسطينيون ألبتة على ذلك.
 6- اللاجئون: لن يتخلى الفلسطينيون عن حق اللاجئين في العودة الى بيوتهم (حتى لو هادنوا في شأن عدد الاشخاص الذين يحققون هذا الحق في الواقع) واسرائيل لا تستطيع الاعتراف بهذا الحق.
 الاستنتاج سهل وهو انه لا داعي لمحاولة التوصل الى اتفاق لا لأن كل محاولة ستنتهي الى الفشل بل لأن ثمن الفشل قد يكون كبيرا. يفضل محاولة ادارة الصراع بدل محاولة حله.
 إن هذا التوجه، مهما يكن واقعيا، تكمن فيه خمسة أخطار:
 الاول ان الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني ليس "صراع حدود" بين دولتين. ثمة احتكاك دائم بين فئات من السكان سيفضي بالضرورة الى انفجارات كما وقع في الانتفاضة الاولى والثانية. وقد تكون نتيجة انتفاضة ثالثة أشد من سابقاتها.
 والثاني عدم وجود حل يمنع التطبيع بين اسرائيل ودول المنطقة ويستطيع أن يستمر على إحداث مراكز توتر.
 والثالث أن استمرار الصراع يمنح جهات معادية ولا سيما ايران، ذريعة الى الاستمرار على تعزيز جهات معادية (حماس) بل هو سبب ممكن لمهاجمة اسرائيل في المستقبل.
 والرابع أن شرعية اسرائيل في العالم ولا سيما في اوروبا ستظل في تضرر ما استمر "الاحتلال". ولا يمكن ايضا رفض امكانية استعمال عقوبات على اسرائيل.
 والخامس (وهذا هو الخطر الرئيس في نظر كثيرين)، فان إحداث عدم حل "دولتين للشعبين" قد ينشيء ضغطا عربيا ودوليا في اتجاه دولة واحدة بين الاردن والبحر لجميع من يسكنونها. وهذه النتيجة هي نهاية الصهيونية وضياع الهوية اليهودية لدولة اسرائيل.
 باختصار، حتى لو كانت ادارة الصراع سياسة معقولة في الأمد القصير فانها ستُحدث في الأمد البعيد أخطارا استراتيجية لا يُستهان بها. والى ذلك اذا لم يكن الزمن يعمل لمصلحة اسرائيل فان الثمن الذي ستضطر اسرائيل الى دفعه في المستقبل قد يكون أكبر من الثمن الذي يُطلب اليها أن تدفعه اليوم.
 ب – توجه "الحلول المرحلية"
 يوافق مؤيدو هذا التوجه على أنه لا يوجد احتمال كبير للتوصل الى تسوية دائمة في الأمد القصير. ويخشون من جهة ثانية ألا يخدم الجمود السياسي اسرائيل ولهذا يؤيدون وجود تقدم في كل مجال يمكن فيه ذلك. قد تكون التسوية المرحلية اجراءا "متواضعا" مثل "استمرار الأقساط" أو أن تكون اجراءا أكثر ادعاء مثل اتفاق على "دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة" كما تُحدد بكونها امكانية في "خريطة الطريق".
 إن مزايا هذا التوجه وبخاصة اذا كانت النتيجة "دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة" هي اربع:
 الاولى، ان يكون تقدم سياسي يُضائل الأخطار المفصلة في المادة السابقة.
 والثانية ان هذه الدولة الفلسطينية ستُضائل "الاحتلال" الاسرائيلي الى ما يقارب الصفر. فـ 95 في المائة من الفلسطينيين لن يُطلب اليهم المرور من حاجز اسرائيلي واحد عندما ينتقلون من مكان الى مكان في الضفة الغربية، فضلا عن انهم سيعيشون تحت سيادة فلسطينية.
 والثالثة أن هذا التوجه يُمكّن من حل أكثر المشكلات العملية (تقسيم الارض) لكنه يمتنع عن مس الموضوعات الحساسة مثل القدس واللاجئين واعلان الفلسطينيين انهاء الصراع.
 والرابعة أن وجود دولتين واحدة الى جانب الاخرى قد يُضائل الريبة والتوتر، لانه سيكون واضحا للجميع انه اذا نجح الفلسطينيون في ادارة دولتهم ادارة مناسبة، فسيكون من الممكن بعد عدة سنين محاولة إتمام الاجراء والتوصل الى تسوية دائمة.
 تُبيّن نظرة أكثر عمقا ان هذا التوجه أقل نجاحا مما يبدو من النظرة الاولى. يرفض الفلسطينيون هذا التوجه رفضا باتا. والمعارض الرئيس له هو رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن نفسه. ومن الواضح انه حتى لو وافق الفلسطينيون بسبب ضغط دولي على دخول تفاوض على هذا الأساس فسيكون عندهم مطلبا سقف عاليان: الاول ان تنسحب اسرائيل الى خط الجدار الأمني (على الأقل)، والثاني أن يُعطى ضمان دولي لا لبس فيه يضمن ألا يُخلد الحل المرحلي كحل دائم. وسيطلبون ايضا أن يتم تحديد جدول زمني ملزم للتوصل الى تسوية دائمة.
 حتى لو رضي الفلسطينيون ووافقوا على تسوية من هذا القبيل، فان ذلك لا يخدم المصلحة الاسرائيلية بالضرورة. فاسرائيل في نطاق هذا الحل تدفع أثمانا عالية مقابل بديل ضئيل. ستضطر اسرائيل الى أن تقتلع عشرات آلاف الاسرائيليين من بيوتهم وتخاطر مخاطرة أمنية تصاحب تخليا عن السيطرة على أكثر يهودا والسامرة. والبديل ضئيل لان الصراع لن ينتهي. والى ذلك، ودونما صلة بالواقع على الارض، سيستمر الفلسطينيون على ادعاء أن "الاحتلال" مستمر لأننا لم نتوصل بعد الى الحدود الدائمة. ولن ترى حماس وجزء من فتح سببا لوقف الكفاح المسلح. سيُحدث الانسحاب الاسرائيلي من أكثر مناطق الضفة إغراء بزيادة الكفاح المسلح الى "أن تنسحب اسرائيل من كل الارض الفلسطينية وفيها القدس الشرقية". ولن تسارع الدول العربية ايضا الى الاعتراف باسرائيل ما لم تُحرز تسوية دائمة. والى ذلك فان اسرائيل بموافقتها على حل التسوية المؤقتة (دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة) تقول انها تقبل حل "دولتين للشعبين" كاملا وإن التطبيق فقط ينقسم الى مرحلتين. وإن امكانية أن يُقترح بعد ذلك حل دائم مختلف تماما ضئيلة. اذا فشلت المرحلة الاولى في الطريق الى الاتفاق الدائم، فستفقد اسرائيل الوسيلة الرئيسة لاقتراح حلول اخرى، لانه عندما يصبح 90 في المائة من الارض تحت السيطرة الفلسطينية ستفقد اسرائيل أوراق مساومتها الرئيسة.
 ج – توجه "الحل الدائم الآن"
 يدعي مؤيدو هذا التوجه اربع دعاوى رئيسة:
 الاولى أن حل "دولتين للشعبين" (خطة كلينتون مع تغييرات طفيفة) هو الحل الوحيد. وهو حل معروف متفق عليه. وهو ايضا حل "سهل"، لا بمعنى الاستعداد لقبوله بل بمعنى انه يوجد لاعبان فقط في الملعب.
 تؤكد الدعوى الثانية أن الزمن ليس في مصلحة اسرائيل، وان كل تأخير قد يفضي الى اوضاع خطرة على دولة اسرائيل أو الى إساءة شروط التفاوض على الأقل.
 والدعوى الثالثة ان الحل جيد للطرفين. ولا تنبع صعوبة قبوله من المس بمصالح قومية بل من عدم وجود قيادة ولا سيما في الطرف الاسرائيلي.
 والدعوى الرابعة، أن الفروق بين الطرفين فيما يتعلق بالجوهر ليست كبيرة جدا، فمن الحقائق انه أمكن التوصل الى "اتفاق جنيف". ليس هذا الاتفاق في الحقيقة اتفاقا رسميا لكنه يُعبر عن اتفاق بين جهات سياسية في الجانبين.
 والى ذلك يدعي المؤيدون انه توجد الآن ساعة ارادة تنبع من التصميم الحقيقي القوي لرئيس الولايات المتحدة اوباما على التوصل الى اتفاق دائم بين اسرائيل والفلسطينيين. صحيح أن كلينتون ايضا أراد هذا الاتفاق جدا، لكن كلينتون شغل نفسه بذلك في نهاية ولايته فقط في حين أن أفق الرئيس اوباما لا يقل عن اربع سنين.
 تُبيّن التجربة انه حتى لو وُجد منطق كبير في هذا التوجه، فاننا عندما نبلغ ساعة الحسم ونحاول التوصل الى عمل ذي غرض لا يُمكّن الفرق الحقيقي بين الجانبين كما وُصف في المادة (أ) من هذا الفصل، من انهاء الصراع. يحسن كي نفهم ذلك على نحو أفضل أن نعرف صفتي صعوبة خاصتين لحل "دولتين للشعبين". الاولى صبغة الحل المقترح، والثانية عدم وجود شرط ضروري للاتفاق ألا وهو الثقة بين الجانبين.
 إن حل "دولتين للشعبين" هو حل "لعبة نتيجتها صفر". لم يكن الامر يبدو كذلك في الماضي. فعندما بدأت مسيرة اوسلو في 1993 تم الكلام على "شرق اوسط جديد". وكان الأمل في ذلك الزمن أن يفضي السلام الاسرائيلي – الفلسطيني الى فتح حدود كما في غرب اوروبا، في حين تكون الفائدة للطرفين أكبر من نتيجة "أعطِ وخُذ". التوجه اليوم مختلف حتى عند مؤيدي التسوية. فهم اليوم يريدون احراز فصل بين الجانبين بحيث نصبح "آخر النهار هنا وهم هناك". هذه لعبة نتيجتها صفر وكل زيادة على أحد الأطراف بحسبها تكون على حساب الطرف الثاني. حتى عندما تجري لعبة نتيجتها صفر يمكن التوصل الى اتفاق جيد اذا كان ترتيب أسبقيات المصالح عند الطرفين مختلفا واذا كان الأهم عندي ليس الأهم عندك والعكس. وليس هذا هو الوضع بيننا وبين الفلسطينيين، فصدام المصالح هنا مطلق. وفي هذا الوضع ستبدو التنازلات دائما "مؤلمة" في حين أن المقابل غير جذاب على نحو كافٍ.
 والمشكلة الثانية هي عدم الثقة بين الطرفين. في مجال الاعمال وفي المجال السياسي يوجد في الأكثر افتراض أن الطرف الثاني يريد التوصل الى اتفاق وهو قادر على تحقيقه بعد ان يتم احرازه. هذا الافتراض غير موجود في التفاوض الاسرائيلي – الفلسطيني. فالفلسطينيون لا يؤمنون بأن الحكومة في اسرائيل تنوي "حقا" إزالة الكثير جدا من المستوطنات، واذا كانت تنوي فعل ذلك حقا فان للفلسطينيين شكا كبيرا في أن تستطيع الحكومة فعل ذلك ايضا.
 والريبة في الجانب الاسرائيلي أكبر كثيرا. لان اسرائيل بكونها الجانب الذي يجب عليه أن يتخلى عن أملاك حقيقية فمن الواضح أن الاحجام عن اتفاق سلام مع الفلسطينيين قوي. الخوف الرئيس من أن نبلغ وضع "خسارة مضاعفة" – بعد أن نخرج من الارض وتنشأ دولة فلسطينية تسيطر حماس عليها. إن حماس فضلا عن أنها لن تفي بنصيب الفلسطينيين من الاتفاق ستُنشيء تهديدات مباشرة لأمن اسرائيل.
 لهذا؛ الشروط الضرورية التي ستُمكّن من التوصل الى اتفاق دائم اسرائيلي – فلسطيني في المستقبل القريب غير موجودة. واذا تم مع كل ذلك احراز اتفاق كهذا (بسبب ضغط امريكي ثقيل) فمن المشكوك فيه أن يستطيع الطرفان تحقيق التزامهما بنجاح.
 بيّن هذا الفصل أن التوجهات الثلاثة الموجودة وهي انه لا حل للصراع وينبغي الانتقال الى ادارته؛ وأنه يمكن التقدم الى حل مرحلي؛ وأنه برغم الصعاب يمكن التوصل الآن الى تسوية دائمة، كلها اشكالية جدا.
الفصل الثالث – الأخطاء التي أفضت الى الوضع الراهن
 برغم عنصر الصعوبة الدائم الذي هو الصراع بين الرؤية الفلسطينية والرؤية الاسرائيلية، كان يمكن أن نكون في وضع أفضل لولا انه وقعت عدة أخطاء استراتيجية على أيدي حكومات اسرائيل المختلفة طوال الثلاثين سنة الأخيرة، وعلى أيدي الادارات الامريكية طوال الست عشرة سنة الأخيرة، ولا سيما على يدي ادارة اوباما. الخطأ الاسرائيلي المتواصل هو انشاء رسالة مغلوطة، وينبع الخطأ الامريكي من عدم وجود فحص واعٍ عن الفروض الأساسية.
 أ – الرسالة المغلوطة لرؤساء الحكومات في اسرائيل
 يوجد اليوم اجماع عند الجماعة الدولية على أنه توجد مشكلة فلسطينية وعلى أنه يوجد جانب يجب عليه التنازل لحلها وهو اسرائيل. هذا الوضع قائم، ومن جملة اسباب ذلك كون اسرائيل أخذت على عاتقها المسؤولية عن حل المشكلة.
 في ست فرص مختلفة منذ 1979 الى اليوم، "تطوع" رؤساء حكومات في اسرائيل، من بيغن الى اولمرت، لأن تتحمل دولة اسرائيل مهمة حل المشكلة الفلسطينية. كانت المرة الاولى زمن التفاوض في اتفاق السلام مع مصر. عندما تم التفاوض بين اسرائيل ومصر، وبعد أن اتفق بيغن والسادات على أكثر الشؤون المتبادلة، أراد السادات أن يسمع موقف اسرائيل مما يتعلق بالمشكلة الفلسطينية. فهب بيغن الى التطوع قائلا إن اسرائيل ستمنحهم حكما ذاتيا فيكونون راضين ونكون راضين. وفُهم من ذلك ضمنا أن المشكلة الفلسطينية مشكلتنا وأنه لا يوجد ما يدعو مصر الى التدخل.
 ووقعت المرة الثانية زمن حرب لبنان الاولى (1982). ففي بداية الثمانينيات "انتقلت" المشكلة الفلسطينية الى لبنان. عزمت اسرائيل مرة اخرى على أنه يجب عليها "حل المشكلة الفلسطينية"، واذا احتاج الامر الى احتلال دولة ثالثة (لبنان) فيجب فعل ذلك.
 وكانت المرة الثالثة زمن محادثات لندن في 1987. أجرى وزير الخارجية بيرس تفاوضا مع حسين ملك الاردن في حل أساسه "اتحاد كونفيدرالي بين الاردن والضفة الغربية". عارض رئيس الحكومة شمير ذلك بشدة. وكانت رسالة رئيس حكومة اسرائيل الى ملك الاردن قاطعة لا لبس فيها تقول "المشكلة الفلسطينية مشكلتنا لا مشكلتك". تلقى حسين الرسالة وقرر بالتدريج فصل مملكته عن القضية الفلسطينية.
 وكانت المرة الرابعة التي تحملت فيها اسرائيل المسؤولية عندما بدأت مسيرة اوسلو في 1993. أرسلت اسرائيل رسالة متفائلة الى العالم كله تقول انها قادرة (وحدها) على "احتواء" المشكلة الفلسطينية وحلها بما يُرضي الطرفين.
 وكانت المرة الخامسة في مؤتمر كامب ديفيد في 2000. فقد أوحى اهود باراك الى الولايات المتحدة والفلسطينيين والعالم كله أن في جعبته حلا للصراع الاسرائيلي – الفلسطيني، وأن الاقتراح الذي سيعرضه سيكون سخيّا جدا حتى إن عرفات لن يستطيع رفضه. وكان كامل المسؤولية عن عرض الحل على اسرائيل بطبيعة الأمر.
 وكانت المرة السادسة عندما سلك اريئيل شارون واهود اولمرت سلوكا متشابها عندما خُطط لاجراء "الانفصال" عن غزة (2005)، وبعد ذلك خطة "الانطواء" عن الضفة (2006). بعد أن فشلنا في احراز حل مضاد للفلسطينيين وفشلنا في احراز حل مع الفلسطينيين نشأت مبادرة من النوع الثالث – "لنُطلّق الفلسطينيين". لنخرج من الارض ولنُحط أنفسنا بجدار، ولنغلق الباب ولنرمِ المفتاح. وهكذا نصبح نحن هنا وهم هناك في نهاية الامر. كان التأكيد في الانفصال الذي تم والانطواء الذي لم يتم أننا وحدنا الذين نقرر، وأننا وحدنا الذين نطبق وأننا وحدنا الذين نتحمل النتائج.
 الرسالة المشتركة للحالات الست كلها واحدة وهي أن المشكلة الفلسطينية مشكلتنا. فنحن، ونحن فقط، نعلم حلها. لهذه السياسة نتيجة فظيعة مضاعفة. احدى المشاكل هي ان الجماعة الدولية تتوقع أن نتحمل وحدنا عبء الحل غير أن ذلك يفوق طاقتنا. لا تستطيع دولة اسرائيل ايضا أن تتخلى عن ارض الضفة كلها، وأن تؤيد اقتصاديا دولة عربية ليست موجودة، وأن تتحمل النتائج الأمنية لعدم الاستقرار الذي سينشأ بعد انشاء تلك الدولة.
 والمشكلة الثانية انه ومن غير أن نتنبه، صيغ حل يُسيء وضع دولة اسرائيل قياسا بالوضع الذي كان موجودا حتى 1967. فحتى 1967 عانت دولة اسرائيل مشاكل أمنية نبع أكثرها من وجود "الخصر الضيق" – وهي الحدود التي لا تمكن حمايتها في مركز الدولة. مع ذلك كان ثمة عدة مزايا لذلك الوضع. فقد تمتعت اسرائيل باتصال تام بين المناطق فيها. فحتى 1967 كانت الاردن ومصر مسؤولتين عن عرب الضفة وغزة على الترتيب، والأهم أن اراضي الضفة وغزة كانت تحت سيطرة دول معادية حقا لكنها ذات مسؤولية دولية مبرهن عليها.
 يتطلب حل "دولتين للشعبين" أن تعود اسرائيل الى الحدود التي كانت موجودة قبل 1967، لكن لا أن تعود الى الوضع الذي كان سائدا حتى ذلك الحين. والآن، بخلاف ذلك الوقت، يجب أن تنشأ في الارض نفسها دولة عربية اخرى. ولما كانت هذه الدولة ستكون ضعيفة من جهة اقتصادية، فسيكون من واجب اسرائيل أن تؤيدها. وقيل لنا ايضا ان من مصلحتنا أن يكون سكان فلسطين راضين لانهم اذا أصبحوا بؤساء فستوجه خيبة الأمل كلها علينا ولن يكون الاتفاق مستقرا.
 وفوق ذلك ستكون الدولة الفلسطينية مقسومة بين الضفة وغزة. ولضمان قدرتها على الوجود ينبغي أن يكون جزآها متصلين بـ "ممر آمن". وسيفضي "الممر الآمن"، وهو شارع (أو اثنان) يشقان اسرائيل ليخدما حركة الفلسطينيين الحرة، الى إضرار كبير بالاتصال بين المناطق في اسرائيل.
 ب – الخطأ الامريكي
 عندما صاغت ادارة اوباما سياستها في الشرق الاوسط فضّلت الشأن الاسرائيلي – الفلسطيني على غيره. فقد رأت أن حل الصراع حيوي لانشاء تحالف على ايران، ولضمان تأييد عربي بشؤون اخرى في الشرق الاوسط كالعراق وافغانستان. قدّرت ادارة اوباما أن حل الصراع ممكن وأن كل ما يُحتاج اليه قياسا بما فعلت ادارة بوش هو اظهار جدٍّ أكبر. كان التعبير الاول عن ذلك تعيين السناتور ميتشيل مبعوثا خاصا لهذا الشأن.
 تقوم هذه السياسة الامريكية على سبعة فروض، كلها مخطوءة كاملة أو جزئيا. ومما يُؤسف له جدا أن الادارة لم تُجر استيضاحا متعمقا لهذه الفروض قبل تعبيرها عن تأييدها احراز حل "دولتين للشعبين".
 الفرض الاول: "الطموح الفلسطيني الأعلى هو الى الحصول على استقلال في حدود 1967". ليس لهذا أي أساس، فقد فعل الفلسطينيون كل شيء طوال السبعين سنة الأخيرة كي لا توجد دولة فلسطينية (اذا كانت على جزء فقط من ارض اسرائيل).
 الفرض الثاني: "الفرق بين مواقف الطرفين صغير يمكن التقريب بينه". وهذا غير صحيح. فالفرق كبير. لم يكن من الممكن في سنة 2000 التقريب بين الموقفين ولا الآن ايضا.
 الفرض الثالث: "الدول العربية المعتدلة معنية بانهاء الصراع ولهذا ستساعد على حله". والواقع معكوس. فلا توجد دولة عربية واحدة معنية بانهاء الصراع. فاستمرار الصراع حيوي لخدمة مصالح داخلية. لانه يمكن دائما اتهام اسرائيل بكل شيء، وما استمر الصراع فان وجوده هو العلة الوحيدة لعدم وجود تقدم في مسار الديمقراطية. والى ذلك، توجد لكل دولة (مصر والاردن والسعودية) اسبابها التي تمنعها من انهاء الصراع.
 الفرض الرابع: "انهاء الصراع سيفضي الى استقرار". والعكس هو الصحيح. فانهاء الصراع على نحو لا يكون فيه لاسرائيل حدود قابلة للدفاع عنها ولا للفلسطينيين دولة قابلة للحياة (في غزة على الأقل) سيكون بابا الى توتر جديد.
 الفرض الخامس: "حل الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني حيوي للحصول على المساعدة العربية في الشأن الايراني". وهذه أكثر الدعاوى دحوضا. فمصلحة السعودية ومصر العليا هي صد ايران، ولا سيما المساعدة على منع جعلها قوة اقليمية ذات قدرة ذرية عسكرية. لا حاجة الى "أن يُدفع" اليهما بعملة اخرى (اسرائيلية – فلسطينية) عن شيء هو مصلحتهما العليا.
 الفرض السادس: "توجد فرصة الان لحل الصراع ولا يجوز اضاعتها". والحقيقة أن فرصا أكبر كانت في الماضي (2000)، وليس واضحا ما هي الظروف التي تجعل التوقيت الحالي ملائما على نحو خاص. على العكس، وكما ذكرنا في المقدمة، الظروف الدولية والداخلية اليوم أقل حُسنا مما كانت في الماضي.
 الفرض السابع: "يوجد حل واحد فقط للصراع وهو حل "دولتين للشعبين" وحدود 1967 بينهما" وهذا في الحقيقة غير صحيح. يتم تفصيل في الفصلين التاليين حلان (يمكن أن يكون التأليف بينهما حلا ثالثا ايضا)، احتمال نجاحهما أعلى من الحل "التقليدي".
 وفي الخلاصة: التأليف بين الخطأ الاسرائيلي المستمر والخطأ الامريكي الحديث "أنهى" نقاش شأن الصراع وحدّه في امكانية معروفة واحدة هي حل "دولتين للشعبين".
 الجزء ب
الحلول البديلة
 عرض الجزء الاول من هذه الوثيقة نقاشا امتد طوال السبعين سنة الأخيرة مع حصر العناية في الست عشرة سنة الأخيرة (منذ بدء مسيرة "اوسلو"). راوح النقاش بين طرفين: النشوة والثقة بأن حل "دولتين للشعبين" في متناول اليد، والتشاؤم الخالص الذي يقول انه لا حل سياسيا للصراع. وبين بين ظهرت أفكار مختلفة لاتفاقات مرحلية. المشترك بين الحل الكامل والحلول المرحلية هو انها تقوم على ثلاثة أقضية:
 أ – حل الصراع محدود (جغرافيا) في المنطقة بين الاردن والبحر.
 ب – الحل في اقامة دولة فلسطينية مستقلة.
 ج – ستكون الضفة الغربية وغزة في كل حل جزءا من كيان سياسي واحد.
 حدّت هذه الأقضية الثلاثة النقاش في مجال ضيق ومنعت نقاشا حقيقيا يبدأ من نقطة الصفر ويفحص عن جميع امكانات حل الصراع دون آراء مسبقة.
 اقتراحا الحل اللذان سيُعرضان في الفصلين الرابع والخامس هما حلان لا يعتمدان على تلك الأقضية الثلاثة. تقوم الحلول المقترحة على رؤية اقليمية تُشرك جهات عربية اخرى في محاولة حل القضية الفلسطينية. مع ذلك، يثبت المقترحان للمعيار الذي هو معيار حد أقصى في الرؤية الدولية وهو أن تنتهي السيطرة الاسرائيلية على أكثر اراضي يهودا والسامرة وينتهي "الاحتلال".

 الفصل الرابع – الحل الاقليمي رقم 1: اتحاد فيدرالي اردني – فلسطيني
 أ – خلفية
 لم تقبل الاردن كسائر الدول العربية ايضا خطة تقسيم الامم المتحدة في تشرين الثاني 1947. سارعت الاردن الى السيطرة على الضفة الغربية بل حاولت احتلال أجزاء مما كان يفترض أن يصبح الدولة اليهودية. مع انقضاء حرب الاستقلال ضمت الاردن الضفة الغربية، وبخلاف نظرة المصريين لغزة، رأت الارض والسكان جزءا سياديا قانونيا تابعا للاردن.
 احتلت اسرائيل الضفة الغربية في حرب الايام الستة في 1967. منذ ذلك الحين الى 1993 كانت الآراء في اسرائيل منقسمة بين تصورين: فقد قال تصور حكومة العمل انه ينبغي التوصل الى "مصالحة على الاراضي" مع الاردن، يُسلم بحسبها أكثر الضفة ولا سيما المنطقة الآهلة بالعرب اليها، ويبقى في يد اسرائيل شريطان أمنيان: غور الاردن في الشرق، وشريط آخر يوسع "الخصر الضيق" للدولة في الغرب.
 عارض الليكود كل مصالحة على الاراضي. فهو يرى، لاسباب أمنية ولاسباب تاريخية – دينية، أن الضفة الغربية كلها (يهودا والسامرة) يجب أن تكون تحت سيادة اسرائيل الكاملة. مع ذلك كان الليكود مستعدا لأن تمنح اسرائيل السكان العرب (الفلسطينيين) في هذه المنطقة حكما ذاتيا.
 والى ذلك، رفض أكثر الجمهور الاسرائيلي الى ما قبل 18 سنة فكرة انه يمكن أو يجب أن تنشأ في منطقة الضفة دولة عربية مستقلة اخرى (الدولة الفلسطينية) ألبتة. كذلك لم تفكر الاردن طوال السبعينيات والثمانينيات في أن حل الصراع الاسرائيلي الاردني يقتضي انشاء دولة فلسطينية.
 في نيسان 1987 تم في لندن لقاء سري بين شمعون بيرس الذي كان وزير الخارجية آنذاك وبين الملك حسين. كان موضوع الحديث حل مشكلة الضفة الغربية بانشاء اتحاد فيدرالي اردني – فلسطيني. طُلب الى اسرائيل التخلي عن أكثر اراضي الضفة. غضب رئيس الحكومة آنذاك اسحق شمير لمجرد اللقاء ورفض الفكرة رفضا باتا. تدل هذه الواقعة على خط الاردن الفاصل بالنسبة لهذا الشأن. بعد نشوب الانتفاضة الاولى (كانون الاول 1987)، وعندما أدرك الملك حسين ضآلة احتمالات الحصول على اراضي الضفة لمملكته، أعلن في تموز 1988 بأنه يتحلل من المسؤولية عن الشأن الفلسطيني وأن على اسرائيل منذ تلك اللحظة محادثة م.ت.ف.
 سهّل تغيير الاتجاه الاردني هذا على اسرائيل وعلى الاردن التوصل الى اتفاق السلام بينهما في 1991، لكنه كاد يُنهي امكانية التوصل الى حل الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني.
 

ب – اتحاد فيدرالي اردني – فلسطيني
الحل الاول المقترح هنا هو انشاء مملكة اردنية فيدرالية لها ثلاث "دول": الضفة الشرقية والضفة الغربية وغزة. ستكون هذه الدول "ولايات" بالمعنى الامريكي، مثل بنسلفانيا أو نيوجرسي. ويكون لها استقلال كامل في الشؤون الداخلية، ويكون لها ميزانية ومؤسسات حكم، وقوانين خاصة، وشرطة وسائر رموز الاستقلال، لكن لا تكون لها مثل بنسلفانيا ونيوجرسي مسؤولية عن شأنين: السياسة الخارجية وقوات الجيش. يظل هذان المجالان، كما في الولايات المتحدة بالضبط من مسؤولية الادارة "الفيدرالية" في عمان.
 على أثر سيطرة حماس على غزة اليوم سيكون من الممكن تحقيق هذا الحل على مرحلتين، في الضفة الغربية أولا، وعندما تصبح الظروف ملائمة، وفي غزة عندما تصبح الظروف ملائمة فقط.
 تُجري اسرائيل تفاوضا سياسيا لاحراز هذا الحل مع وفد مشترك اردني – فلسطيني كما كان يفترض أن يتم ذلك في اطار مؤتمر مدريد في 1991.
 ج – مزايا حل الاتحاد الفيدرالي الاردني - الفلسطيني
 هذا الحل أفضل للفلسطينيين وللاردن ولاسرائيل بطبيعة الامر من حل "دولتين للشعبين".
 المزايا للفلسطينيين:
 لهذا الحل بالنسبة للفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة وممن لا يؤيدون حماس اربع مزايا واضحة على حل "دولتين للشعبين".
 الاولى انه أكثر قابلية للتطبيق لانه حل ستهب اسرائيل الى تحقيقه. وسيفضل فلسطينيون كثير يريدون رؤية نهاية للاحتلال الاسرائيلي هذا الحل الذي يحقق ذلك الطموح على انتظار سلام اسرائيلي فلسطيني يُشك في أن يحل قريبا.
 والثانية ان اولئك الناس يدركون ان من المحتمل انه اذا نشأت دولة فلسطينية مستقلة تماما (بحسب خطة "دولتين للشعبين") فستسيطر حماس عليها. ويفضل كثيرون منهم العيش تحت الحكم الاردني على معاناة طغيان حماس الديني كما يحدث في غزة.
 والثالثة ان حلا اسرائيليا – فلسطينيا فقط يوجب على الفلسطينيين تنازلات غير ممكنة كالتخلي عن تحقيق حق العودة، والموافقة على انهاء الصراع وغير ذلك. وأسهل من ذلك تقاسم هذا العبء العاطفي مع جهة تكون دولة عربية (الاردن).
 والرابعة ان الفلسطينيين ايضا يدركون أن بديل "دولتين للشعبين" سيجعلهم مواطني دولة صغيرة جدا غير قابلة للحياة تكون عليها قيود شديدة في الشأن الأمني كله (التخلي عن السيادة في المجال الجوي مثلا). يفضل أن يكونوا مواطنين مساوين في دولة محترمة كبيرة في حين يكونون فيها (أي الفلسطينيون) الأكثرية السكانية.
 المزايا للاردن
 يدركون في الاردن جيدا انه اذا نشأت دولة فلسطينية مستقلة في الضفة فمن المحتمل أن تقع في يد حماس كما حدث في غزة. إن وضعا تكون فيه في دولة مجاورة (فلسطين) سلطة للاخوان المسلمين ومع الأخذ في الحسبان الحدود الطويلة بين الدولتين والتهديد الذي أصبح قائما في الاردن من الاخوان المسلمين، يعني بدء نهاية المملكة الهاشمية. الطريقة الوحيدة في الشرق الاوسط لضمان بقاء السلطة هي السيطرة الأمنية الفعالة. لهذا فالطريق الى منع فوران في الاردن تُغذيه سلطة حماس في الضفة في المستقبل هي السيطرة العسكرية الاردنية على هذه المنطقة.
 المزايا لاسرائيل
 لهذا الحل اربع مزايا بالنسبة لاسرائيل على حل "دولتين للشعبين": الاولى، وجود اختلاف "في القصة" – فلم يعد الحديث عن شعب فلسطيني تحت احتلال بل عن صراع (على اراض) بين دولتين اسرائيل والاردن. ويتوقع أن يتغير الضغط الدولي القائم اليوم على اسرائيل للتخلي في كل شأن.
 والثانية، أن الاردن تستطيع ان تكون أكثر مهادنة في بعض الشؤون كشأن الاراضي مثلا. ولا يستطيع الفلسطينيون التخلي عن منطقة "في حدود 1967". اسرائيل صغيرة وتحتاج الى ارض اخرى، لكن الدولة الفلسطينية يفترض أن تكون أصغر. وليس "من العدل" أن يُطلب الى الجانب الأصغر الأضعف التخلي. لكن عندما تكون الشريكة هي المملكة الاردنية الكبيرة يصبح ذلك أسهل.
 ويصدق الامر على نحو أوضح في كل ما يتعلق بالترتيبات الأمنية. ستطلب اسرائيل في كل تسوية تجريد الضفة الغربية من السلاح. والحديث في حال وجود دولة فلسطينية عن تجريد الدولة كلها من السلاح الثقيل. وهذا مطلب صعب أن يقبله شعب يحصل على الاستقلال. وعندما يكون الحديث عن اتفاق بين اسرائيل والاردن يبدو هذا الطلب أكثر معقولية. كل ما يُحتاج اليه التخلي عن نشر قوات في منطقة ما (الضفة الغربية) وهذا مطلب سيبدو للاردنيين مقبولا كما قبلت مصر بالضبط لحينه المطلب الاسرائيلي ووافقت على ألا تنشر قوات كبيرة من الجيش في مقدمة سيناء.
 والثالثة، وهذه هي الميزة الكبرى – موضوع الثقة. ففي حالة حل "دولتين للشعبين" يُطلب الى اسرائيل التخلي عن أملاك محسوسة مقابل "وعد" فلسطيني للحفاظ على الهدوء الأمني. لاسرائيل اسباب حسنة للخوف من وضع "خسارة مضاعفة"، بأن نتخلى عن الارض كلها ولا نحصل على الأمن ايضا. إن خطر ألا تستطيع السلطة الفلسطينية أو لا تريد "توفير البضاعة" يبدو كبيرا ومحسوسا.
 الامر مختلف عندما يكون الحديث عن اتفاق سلام اسرائيلي – اردني. فاسرائيل مطلوب منها أن تخاطر لكنها مخاطرة تشبه مخاطرتها في سنة 1979 عندما وقعت على اتفاق سلام مع مصر وتخلت عن سيناء كلها.
 تتعلق الميزة الرابعة بالعلاقات بين الدولتين. فلاسرائيل اسباب حسنة كي تخشى انه اذا نشأت دولة فلسطينية مستقلة فان ضعفها الراسخ سيكون عبئا آخر على اسرائيل. وليس من الواضح ألبتة هل تُمكّن المنطقة بين الاردن والبحر من انشاء دولتين ذواتي بقاء، ولهذا كل مشكلات الدولة المستقبلية (عدم وجود بنية تحتية، والنقص في اماكن العمل، والشقاق بين يهودا والسامرة وغزة وغير ذلك) ستقع على كاهل دولة اسرائيل. والى ذلك ستزعم الجماعة الدولية أن "واجب اسرائيل الاخلاقي" أن تساعد الدولة الجديدة بعد سني احتلال طويلة جدا، والى ذلك فهذه مصلحة اسرائيلية لانه اذا وُجد يأس وفقر وخيبة أمل في الدولة الفلسطينية، فسينعكس الامر سلبيا علينا ايضا. وليس هذا وجه الامور اذا أصبحت الضفة جزءا من المملكة الاردنية "الكبيرة".
 المزايا بالنسبة للجماعة الدولية
 إن انشاء دولة فلسطينية بحسب تصور "دولتين للشعبين" سيُبقي كثيرا من المشكلات في الملعب الدولي. سيصعب على الدولة الجديدة ان تكون مستقلة من جهة اقتصادية، وستكون مقسومة بين منطقتين (غزة والضفة الغربية) ولن تبلغ مشكلة اللاجئين الحل الكامل سريعا. وفوق كل شيء، لن تختفي المشكلات بين اسرائيل وفلسطين في اللحظة التي يوقع الاتفاق فيها. ستضطر الجماعة الدولية ولا سيما الولايات المتحدة الى بذل جهود اخرى كثيرة لتحقيق الاتفاق الناجح.
 الامر مختلف اذا أصبحت المشكلة مشكلة تكون دولتان قائمتان مستقرتان هما اسرائيل والاردن مسؤولتين عن حلها. في اللحظة التي يُحرز فيها الاتفاق يصبح تحقيقه تحديا لاسرائيل وللاردن، لكن مقدار الاصغاء الذي سيُطلب من العالم سيقل كثيرا، على نحو يشبه ما حدث بعد توقيع اتفاق السلام بين اسرائيل ومصر في 1979.
 الفصل الخامس – الحل الاقليمي 2: تبادل اراض
 أ – خلفية
 توصي الادارة الامريكية في محاولتها تحسين اقتراح حل "دولتين للشعبين" الدول العربية بأن تمنح اسرائيل تعويضات من استعدادها للتخلي عن أملاك مقابل اتفاق. ففي رؤيتها (الصحيحة) لا يستطيع الفلسطينيون وحدهم أن يعرضوا على اسرائيل مقابلا يُسوغ التنازلات الكبيرة التي تصاحب اتفاق سلام.
 تتناول التعويضات التي يتوقع من الدول العربية بذلها تطوير علاقاتها باسرائيل. من الواضح مع كل أهمية هذا الموضوع انه سيكون من الصعب "تعويض" اسرائيل من فقدان مناطق يهودا والسامرة كلها مقابل هذه التفضلات أو تلك.
 أهم شيء تستطيع الدول العربية أن تعطيه لاسرائيل وفلسطين هو (شيء صغير..) من الارض. يصعب في رؤية موضوعية ألا نرى اعوجاج اقتراح "دولتين للشعبين". فمن جهة يجب على اسرائيل وفلسطين أن تنطويا في منطقة ضيقة مزدحمة، ومن جهة ثانية هاتان الدولتان محاطتان بدول ذات اراض شاسعة وسكان قليلين (الاردن، وصحراء سيناء المصرية، والعربية السعودية). الشيء الوحيد الموجود في وفرة للدول العربية هو بالضبط الشيء الذي تحتاجه اسرائيل وفلسطين ايضا احتياجا يائسا ألا وهو ارض اخرى.
 سيكون من الممكن مقابل تنازل ضئيل منها عن ارض أن تُحسن تحسينا كبيرا وضع اسرائيل والدولة الفلسطينية. ويتبين على نحو مفاجيء أن مصر والاردن ستتمتعان بهذه التسوية أكثر حتى من اسرائيل وفلسطين. يُبيّن هذا الفصل الذي يتناول "حلا اقليميا" آخر كيف يمكن "تكبير الكعكة" بحيث يربح الجميع.
 ب – أسس الاقتراح:
 1- تنقل مصر لغزة ارضا مساحتها 720 كم مربع. هذه المساحة هي مستطيل مكون من ضلع طولها 24 كم تمتد على طول شاطيء البحر المتوسط من رفح غربا الى العريش (لكنها لا تبلغ العريش) ومن ضلع طولها 30 كم غربي كيرم شالوم في الجنوب على طول حدود اسرائيل مع مصر. هذه الزيادة لـ 720 كم مربع تجعل مساحة قطاع غزة تزيد على مساحتها الحالية التي هي 365 كم مربع بثلاثة أضعاف.
 2- إن مساحة 720 كم مربع تساوي في مساحتها نحوا من 12 في المائة من مساحة الضفة الغربية. يتخلى الفلسطينيون مقابل هذه الزيادة على مساحة غزة عن 12 في المائة من مساحة الضفة تُضم لاسرائيل.
 3- مقابل الارض التي تعطيها مصر لفلسطين تحصل مصر من اسرائيل على ارض جنوب غرب النقب. يمكن أن تبلغ الارض التي ستنقلها اسرائيل لمصر 720 كم مربع، لكنها يمكن أن تكون أصغر إزاء سائر الخيارات لمصر (أنظر المادة د).
 ج – الفائدة لفلسطين
 إن غزة في مساحتها الحالية ليست قابلة للعيش. فهي لا تملك أدنى مساحة تُمكّن من وجود اقتصاد مستقر. يعيش اليوم في غزة 1.5 مليون من السكان. في سنة 2020 سيصبح في غزة 2.5 مليون من السكان. هل يعتقد أحد حقا أن سكان غزة في مساحتها الأصلية يستطيعون العيش في سعادة وغنى في مساحة لا تُمكّن من أي تطور؟ حتى انه لا يمكن أن يُبنى في غزة ميناء ذو سعة معقولة لانه لا يوجد قدر كاف من المكان ولان قربه من اسرائيل سيسبب ضررا شديدا بساحل اسرائيل. يخطيء من يحاول التسوية بين غزة وسنغافورة. فاقتصاد سنغافورة يقوم على التجارة الدولية، والمصرفية المتقدمة وصناعة الهاي تيك. ويقوم اقتصاد غزة على الزراعة والتكنولوجيا المتدنية. فليست مساحة الارض في سنغافورة متغيرا مهما لكنها متغير حاسم في كل ما يتعلق باحتمال أن تصبح غزة قابلة للعيش.
 إن زيادة مساحة غزة بحسب المخطط المعروض هنا تمنحها 24 كم من الساحل مع كل ما يتضمن ذلك من معنى – المياه الاقليمية بطول 9 أميال، واحتمالات معقولة لوجود غاز طبيعي في هذه المنطقة.
 إن زيادة مساحة 720 كم مربع على غزة ستُمكّن من انشاء ميناء دولي كبير (في الجزء الغربي من المنطقة)، ومطار دولي، على بعد 20 – 25 كم عن الحدود الاسرائيلية، والأهم – وجود مدينة جديدة فيها مليون ساكن تصبح منطقة التطور الطبيعي لا لغزة فقط. فستستطيع ايضا أن تستوعب لاجئين فلسطينيين من دول اخرى.
 معنى هذا التوسيع الاقتصادي عظيم كما سنوضح في المادة (ز). يجب على الفلسطينيين مقابل جعل غزة مكانا جذابا ذا احتمالات حقيقية لأن يصبح مركز تجارة دولية في المنطقة، أن يتخلوا عن ارض في الضفة توجد فيها منذ عشرات السنين مستوطنات اسرائيلية ومنشآت عسكرية – هذا تنازل مؤلم لكن لا يمكن أن يُسوّى بزيادة الفائدة في غزة.
 د – الفائدة لمصر
 ستحصل مصر مقابل استعدادها لمنح (الفلسطينيين لا اسرائيل!) 720 كم مربع من ارض مصر "المقدسة" على 7 بدائل:
 1- الارض مقابل الارض. ستحصل مصر من اسرائيل على ارض جنوبي النقب. ستكون مساحتها القصوى 720 كم مربع، لكن من الممكن بسبب البدائل الاخرى المساومة في هذا بيقين.
 2- مصر مفصولة من جهة جغرافية عن الجزء الرئيس (الشرقي) من الشرق الاوسط. فالبحر الاحمر من الشرق والجنوب، والبحر المتوسط في الشمال. وللتمكين من اتصال بري ستُمكّن اسرائيل من حفر نفق يربط بين الدولتين مصر والاردن. يمر النفق وطوله نحو من 10 كيلومترات من الشرق الى الغرب (على بعد نحو 5 كم شمالي ايلات) ويكون تحت سيادة مصرية كاملة، بحيث يتم الانتقال من مصر الى الاردن (وبعد ذلك الى الشرق والجنوب الى السعودية والعراق) بلا حاجة الى رخصة اسرائيلية.
 3- بين المطار الجديد لـ "غزة الكبرى" والميناء الجديد، وكلاهما على ساحل البحر المتوسط، الى ذلك "النفق الاردني المصري" في الجنوب تُمد سكة حديد، وشارع سريع وأنبوب نفط (يكون مسار هذه الخطوط موازيا لحدود مصر مع اسرائيل في الجانب المصري)، وتمتد تلك الخطوط الثلاثة من طريق النفق الى الاردن وتتوزع من هناك الى الشمال الشرقي للاردن والعراق والى الجنوب نحو السعودية ودول الخليج.
 ثمة مزايا اقتصادية عظيمة لهذا الربط كما سنُبيّن فيما يلي في المادة (ز). ربح مصر واضح: فالجمارك المصرية ستأخذ نصيبها من كل حركة تتم بين الاردن والعراق والخليج نحو ميناء غزة. فالمسار كما قيل آنفا يمر في ارض مصرية.
 4- لمصر مشكلة ماء أخذت تزداد حدة. يوجد ازدياد للسكان وأخذت مصادر الماء النقي تتضاءل. ولن تستطيع دولة يعيش نحو من 50 في المائة من سكانها على الزراعة أن توجد بعد جيل أو اثنين بلا حل أساسي لازمة الماء. يتطلب ذلك في جملة ما يتطلب، استثمارات عظيمة في تحلية الماء وتنقيته. وتتطلب هاتان تقنية متقدمة ومالا كثيرا في الأساس. ومصر لا تملك هذين، ولهذا، ومقابل "السخاء" المصري سيستثمر العالم في مصر (عن طريق البنك الدولي وغيره) في مشروعات لتحلية الماء وتنقيته بمقدار كبير.
 5- إن اتفاق السلام بين اسرائيل ومصر في سنة 1979 منح مصر في الحقيقة مزايا كثيرة، لكنه اضطرها الى قبول قيود صعبة تتصل بنشر قوات من الجيش في سيناء. توافق اسرائيل باعتبار ذلك جزءا من المقابل لمصر على اجراء تغييرات ما في الملحق العسكري لاتفاق السلام. هذا الامر حيوي لتمكين القيادة المصرية من أن تعرض على الداخل الدعوى الآتية: نحن نتخلى حقا عن 1 في المائة من سيناء لكن هذا التخلي يُمكننا بعد ثلاثين سنة من أن نحقق على نحو أكمل سيادتنا على 99 في المائة من الارض.
 6- مصر، مثل دول كثيرة في المنطقة، معنية بأن تكون لها قدرة ذرية (لضرورات سلمية). توافق دول اوروبا (ولا سيما فرنسا) باعتبار ذلك جزءا من تعويض مصر، على بناء مفاعلات ذرية في مصر لانتاج الكهرباء.
 7- سيضع اتفاق السلام الموصوف هنا حداً لصراع عمره 100 سنة بين اسرائيل والعرب. لن يشك أحد في أن هذا الاتفاق قد تم احرازه قبل كل شيء بفضل الرئيس المصري. وتقصر الطريق من هنا نحو جائزة نوبل للسلام، ومؤتمر سلام دولي في القاهرة، وعودة مصر عامة الى المكانة الدولية المهمة التي تمتعت بها حتى سنة 1967.


 هـ - الفائدة للاردن
 الاردن هي المستمتعة الكبرى بهذه التسوية من غير أن يُطلب اليها دفع أي ثمن (ربما يكون الغاء كون اسرائيل إسفينا كما هي اليوم بين الاردن ومصر لا يلائم الرغبة الاردنية). للاردن ميزتان كبيرتان في اطار هذه الخطة:
 1- سيربط نظام الشوارع والسكة الحديدية وأنبوب النفط الميناء الدولي في غزة الكبرى، مرورا بنفق الاردن – مصر بالخليج العربي. تحصل الاردن "بالمجان" على منفذ ناجع الى البحر المتوسط (الميناء الجديد في غزة) ومنه الى اوروبا. وفوق ذلك فالجانب الشرقي للنفق هو "عنق الزجاجة" الذي ستنصب فيه حركة السلع من اوروبا نحو العراق والخليج، وهو أمر يعطي الاردن مزايا اقتصادية واستراتيجية جمّة.
 2- الاردن قلقة لمشكلات سكانية، ففيها أكثرية واضحة من السكان من أصل فلسطيني أخذوا يزدادون. تقوى هذه الظاهرة ما ظلت الحياة في الاردن أسهل من الحياة في غزة والضفة. وفي اللحظة التي تنشأ فيها "غزة الكبرى" والميناء والمطار الجديدان، ستنشأ امكانات عمل كثيرة وسينقلب التوجه. فسيفضل فلسطينيون من أصل غزي (ويوجد 70 ألف كهؤلاء في الاردن) "العودة الى بيوتهم"، وجزء من اللاجئين ايضا الذين يعيشون اليوم في الضفة وفي الاردن نفسها.
 و – الفائدة لاسرائيل
 عندما نقارن هذه التسوية بالحل "المعتاد" وهو "دولتان للشعبين" نتبيّن اربع مزايا واضحة:
 1- المنطقة التي ستظل في يد اسرائيل في يهودا والسامرة (نحو 12 في المائة) أكبر كثيرا مما يمكن احرازه بالحل "المعتاد". إن 12 في المائة هي المساحة التي حددها اهود باراك عندما سافر الى كامب ديفيد (2000) بأنها المنطقة الحيوية للحفاظ على مصالح اسرائيل. عندما رُسم خط الجدار الأصلي أبقى في الجانب الاسرائيلي نحوا من 12.5 في المائة. كان المنطق مشابها (ومنذ ذلك الحين وبضغط من المحكمة العليا نُقل الجدار غربا ويوجد اليوم 8 في المائة فقط من الضفة غربيه).
 تُمكّن هذه المساحة اسرائيل من أن تضائل كثيرا عدد الاسرائيليين الذين سيضطرون الى اخلاء بيوتهم، من 100 ألف الى نحو من 30 ألفا. والى ذلك، تستطيع هذه النسبة من الارض تمكين اسرائيل من أن تُبقي داخلها اماكن ذات أهمية دينية واستراتيجية مثل عوفرا وكريات اربع. وستُمكّن من إبقاء اريئيل داخل اسرائيل وبشروط سهلة.
 2- تقسيم ارض أكثر اتزانا بين غزة والضفة يمنح الدولة الفلسطينية احتمالا أكبر لان تصبح "قابلة للعيش" ويزيد بذلك احتمال التوصل الى تسوية مستقرة.
 3- مشاركة الدول العربية، ولا سيما الاردن ومصر في الحل مهم وملزم. فهذه المشاركة تُحدث "ضمانات" أقوى لتنفيذ الاتفاق.
 4- لا تلغي هذه التسوية الاقليمية الحاجة الى "ممر آمن" بين غزة والضفة، لكنها تقلل من أهميته (ومقدار الحركة فيه). سيظل "الممر الآمن" مسار حركة بين غزة والضفة لكن سائر حركة السلع والناس بين غزة وسائر العالم العربي سيتم عن طريق المسار الجديد.

 ز – المزايا الاقتصادية (للجميع)
 أكثر التجارة بين العراق والسعودية ودول الخليج وبين اوروبا تتم في سفن تمر من قناة السويس، أو في سفن يجب أن تلف حول افريقية بسبب كبرها. ليس هذان المساران مجديين، لكن مع عدم وجود ميناء حديث على ساحل البحر المتوسط ومع عدم وجود شبكة نقل ناجعة لا مناص سوى استعمالهما.
 اذا أُنشيء على ساحل البحر المتوسط داخل "غزة الكبيرة" ميناء حديث مع تكنولوجيا تشبه التكنولوجيا في ميناء سنغافورة، واذا امتدت منه جنوبا وشرقا شبكة ناجعة من الشوارع وسكة حديدية ومُد أنبوب نفط، فسيكون من الممكن جعل التجارة مجدية كثيرا وخفض التكاليف.
 لن يأتي تمويل هذا المشروع فقط من الدول التي ستُمد فيها الشبكة بل من دول الغرب ايضا. فالوضع اليوم أن العالم يدفع كل سنة مليارات الدولارات لاطعام الفلسطينيين، ويُستعمل المال بحسب هذه الخطة للاستثمار لا للاستهلاك، وهذا استثمار سيرد نفسه من جهة اقتصادية في غضون عدة سنين. ستتمتع بالزخم الاقتصادي مصر والاردن مباشرة ودول اخرى غير مباشرة.
 بخلاف الماضي الذي أُحرزت فيه حلول مشكلات دولية على نحو ثنائي الطرف على أساس سياسي – استراتيجي، تفضل الجماعة الدولية اليوم البحث عن حلول متعددة الأطراف ذات أساس اقتصادي. وانشاء الاتحاد الاوروبي هم المثل الأبرز. إن الحل الاقليمي المقترح ينطبق تماما على التصور المفضل.
 يمنح هذا الحل الفلسطينيين فرصة حقيقية ليصبحوا "سنغافورة الشرق الاوسط". ولا يمكن بأي حال من الاحوال التفكير في انجاز مشابه في حدود غزة الضيقة اليوم.

 الخلاصة
 للحلين الاقليميين البديلين المعروضين في الفصلين الرابع والخامس صفات مشتركة:
 أولا، تتخلى اسرائيل فيهما عن غزة وعن (أكثر) يهودا والسامرة، وهو تخلٍ يُعبر عن المطلب الدولي ويحظى بتأييد الأكثرية في اسرائيل ايضا.
 ثانيا، ليست المسؤولية فيهما عن احراز الحل هي مسؤولية اسرائيل والفلسطينيين فقط، لانه يُطلب الى دولة أو دول اخرى أن تكون مشاركة على نحو نشيط. فهذا هو منطق التصور الاقليمي.
 ثالثا، ليس الحلان بمثابة "لعبة حصيلتها صفر" من نوع حل "دولتين للشعبين" "العادي". فـ "الكعكة" بحسبهما أكبر وعلى ذلك يصبح وجود طريقة لتقاسمها أسهل.
 رابعا، لا يناقض الحلان اتفاقات قائمة أو التزامات قائمة. فمن الواضح أنه يُحتاج الى موافقة فلسطينية على كل واحد منهما ايضا.
 سيحظى هذان الحلان في اسرائيل بتأييد أكبر من تأييد الحل العادي. وليس سبب ذلك فقط انهما يعرضان على اسرائيل أكثر من الحل "العادي"، بل لانهما يُرضيان من جهة سياسية اليمين إرضاء جزئيا بأنهما يتبنيان عنصرا ما من تصوره. فحل الاتحاد الفيدرالي الاردني – الفلسطيني يلائم دعوى انه لا تسويغ لوجود دولة فلسطينية وأن مطامح الفلسطينيين القومية يجب أن تُحقق بدولة الاردن. يُعبر حل تبادل الاراضي مبدئيا عن دعوى أن حل مشكلة الفلسطينيين المناطقية لا يمكن أن يأتي على حساب اسرائيل وحدها.
 السبيل الى تقديم كل واحد من هذين الحلين معلقة بثلاثة متغيرات رئيسة:
 الاول، اعتراف الادارة الامريكية بأن الحل "العادي" ليس جيدا بقدر كاف. فهو ليس جذابا للطرفين، وحتى لو وقع اتفاق من هذا النوع بسبب ضغط دولي، فمن المشكوك فيه أن يمكن تحقيقه، ومن المشكوك فيه أكثر أن يفضي تحقيقه الى استقرار.
 والمتغير الثاني هو أن توجد جهة مهمة، ليست اسرائيلية (!) تكون مستعدة لاقتراحه على الأطراف ذات الصلة. ففي العالم السياسي يكون المضمون احيانا أقل أهمية من المظاهر (القمقم أهم مما فيه). لن يكون من الممكن تقديم أي خطة اذا بادرت اليها اسرائيل. يجب أن تأتي المبادرة من جهة "محايدة" وتُرى ايضا ذات أهمية وقدرة على التأثير.
 المتغير الثالث هو ان تنشأ فرصة. آخر مرة نشأت فيها هذه الفرصة (من اجل الحل الاقليمي) كانت زمن الانفصال. لم يخطر ببال أحد الى أن ذكر رئيس الحكومة شارون المصطلح أول مرة (مؤتمر هرتسليا في كانون الاول 2003) أن اسرائيل مستعدة لازالة مستوطنات والتخلي عن ارض.
 فاجأت اسرائيل العالم كله برسالة أننا نخرج من غزة من طرف واحد لأن هذه مصلحتنا. ومنذ تلك اللحظة كان العوض الذي استطاعت اسرائيل طلبه صفرا. بدل ذلك كنا نستطيع بعمل سري أن نشجع الولايات المتحدة (يُراد أن يكون ذلك بتنسيق مع الرباعية) أن تقترح الحل الاقليمي وأن "تطلب" أن تكون اسرائيل في اطاره هي التي يُطلب اليها أولا أن تبرهن على الجدية وأن تُخلي غزة في المرحلة الاولى.
 ينبغي اليوم البحث عن الفرصة التالية. قال عنصر مهم في الادارة الامريكية عُرضت عليه الخطة الاقليمية: "انتظروا وريث مبارك".
 إن الخطتين، تلك التي تتحدث عن اتحاد فيدرالي اردني – فلسطيني، والاخرى التي تتناول الحل بتبادل الاراضي لا يناقض بعضهما بعضا. فهما تُعرضان كل واحدة على حدة لان لكل واحدة منهما مخططا مختلفا، لكن طريقتي التفكير هاتين يمكن أن تأتلفا في حل واحد يشتمل على مزاياهما كلتيهما.
 يقول التأليف بين الحلين بأن ينشأ اتحاد فيدرالي اردني – فلسطيني كما وصفنا في الفصل الرابع، لكن تعتمد التسوية المناطقية على ما ورد في الفصل الخامس، حيث تضاعف غزة مساحتها ثلاثة أضعاف، ويبقى في يد اسرائيل جزء أكبر من يهودا والسامرة.
 وامكانية اخرى في اطار التوجه الاقليمي هي الاعتماد على هذه الخطة المدمجة مع القيام بـ "خطوة واحدة اخرى الى الأمام". فبحسب هذا الاقتراح المحسن يكون الاتحاد الفيدرالي الاردني بين الاردن والضفة الغربية فقط. وتكون غزة، سواء بمساحتها الحالية أم بحسب ما وصفنا في الفصل الخامس دولة ترعاها مصر.
 إن هذا الربط بين الضفة والاردن وبين غزة ومصر طبيعي وصحيح. وليس هذا نظرا اسرائيليا فقط لان الدول العربية رأت الامر كذلك حتى 1967. فالعلاقة بين سكان نابلس وبين سكان غزة الأصليين ليست أكبر من علاقتهم بسكان دمشق.
 إن الروح الفلسطينية العامة التي تتحدث عن شعب واحد يعيش في الضفة وفي غزة هي نتاج السنين الاربعين الاخيرة التي نجح فيها ياسر عرفات بتنميتها في موهبة كبيرة. لم يكن يمكن حتى المدة الاخيرة الحديث عن هذه الامكانية للفصل السياسي بين الضفة وغزة في حرية. كانت كل جهة اجنبية أو جهة اسرائيلية تطرح ذلك تُتهم فورا بتآمر يرمي الى دق إسفين داخل الأمة الفلسطينية. أصبح واضحا للجميع منذ سنتين انه يوجد إسفين كهذا في الواقع، لكنه ليس موجودا بسبب نشاط خارجي فقط بل لان الفلسطينيين جلبوه على أنفسهم. ومن الواضح أن غزة والضفة مفصول بعضهما عن بعض لا جغرافيا بل سياسيا ايضا وذلك منذ سيطرة حماس العنيفة على غزة في حزيران 2007. ويصعب أن نرى اليوم سبيلا لرأب هذا الصدع.
 يمكن أن يكون الاستنتاج من هذا الوضع مزدوجا وهو: أولا، انه لا توجد ظروف للتفاوض الاسرائيلي – الفلسطيني في التسوية الدائمة لان السلطة الفلسطينية لا تسيطر على غزة وليست مخولة الحديث باسم السكان الموجودين هناك. ومن الصحيح ثانيا البحث عن حلول لا تكون فيها الضفة الغربية وغزة بالضرورة كيانا سياسيا واحدا. في هذه الظروف يجب أن يُفحص في جدية ايضا عن امكانية ثالثة من نوع ربط الضفة بالاردن بعلاقة فيدرالية ما، مثل ربط مشابه لغزة بمصر ايضا.
 كل ما عُرض في هذا البحث، والمقترحات المختلفة، مع التأليف بينها أو بغيره، محاولة لايجاد حل يختلف عن حل "دولتين للشعبين". قد تساعد هذه الوثيقة على نشوء مبادرة ذات غاية للفحص عن حلول بديلة للنزاع ايضا.
 من الواضح أن اسرائيل لا تستطيع أن تقود مسارا أساسه اقتراح حل آخر للصراع. يوجد في نظام العلاقات الدولية في الحقيقة أهمية لمضمون الاقتراحات، لكنه توجد أهمية أكبر كثيرا لـ "الغلاف". يوجد وزن حاسم في نجاح الاجراءات لامور مثل اسم الخطة، وما هي الجهة التي تبادر اليها وما هي الجهة التي تحظى بالاعتماد. وعلى نحو قد يكون مفاجئا خاصة، تستطيع "المبادرة العربية" أن تكون أساسا لحلول اخرى للصراع الاسرائيلي – الفلسطيني. فالمبادرة العربية تؤكد الجانب الاقليمي ودور الدول العربية. كذلك تؤكد الاقتراحات المفصلة في هذه الوثيقة هذين الجانبين. الاختلاف بين الاقتراحات كبير في الحقيقة لكنه يمكن مع شيء قليل من الابداع ايجاد أساس مشترك.
 أهم شيء هو أن توجد جهة ذات مكانة دولية مهمة (زعيم دولة في الحاضر أو في الماضي) يوافق على تقدير أن الحل "العادي" وهو "دولتان للشعبين" لا يمكن أن يتم احرازه في الأمد القريب ولهذا تصح محاولة الفحص عن خيارات.
 من المحتمل أن يتوصل من يكون مستعدا للفحص عن الوضع دون أن يكون أسير تصور "دولتين للشعبين" الى استنتاجين. الاول، ان الحكم الفلسطيني قد يقود الدولة الفلسطينية لتصبح "دولة فاشلة". وانشاء "دولة فاشلة" في المنطقة تضاف الى لبنان واليمن والصومال لن يخدم الاستقرار في الشرق الاوسط بل العكس. والاستنتاج الثاني انه توجد بدائل من فكرة "دولتين للشعبين". يُعرض اثنان منها بتفصيل في هذه الوثيقة، والثالث الذي يتحدث عن ربط غزة بمصر، والضفة بالاردن معروض باختصار. وقد توجد طريق رابعة أو خامسة تزيد مزاياها على المعروض هنا.
 اذا خلصت تلك الجهة الخارجية الى استنتاج انه توجد سبيل بديلة للتقدم السياسي، فيحتمل أن يُترجم الامر الى مبادرة دولية جديدة، مبادرة تستطيع اسرائيل أن تؤيدها لكن لا أن تقودها ألبتة.
 وفي الختام، تنبغي العودة مرة اخرى الى الروح العامة الموصوفة في الفصل الثاني. إن التصادم بين الروح العامة للطرفين يُصعب وجود حل لكنه يخدم الطرفين بأنه يمنحهما أعذارا جيدة من انه لماذا لا يصح التقدم. يمكن في اللحظة التي ينشأ فيها حل جذاب التغلب ايضا على الصراع المبدئي. وأسهل أن نجد حلا عندما يُحرز حل عملي. يجب أن يكون الحل العملي مكافئا للثمن وللمخاطرة. وليس حل "دولتين للشعبين" في صيغته العادية كذلك.

2011-01-06 11:37:35 | 1840 قراءة

التعليقات

الإسم
البريد الإلكتروني
عنوان التعليق
التعليق
رمز التأكيد
مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية